خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٤٧
لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ
٤٨
-التوبة

تفسير المنار

هاتان الآيتان في بيان حال هؤلاء المنافقين ما كانت تكون عليه لو خرجوا، والتذكير بما كان من أحوالهم السابقة الدالة على ذلك، قال عز وجل: { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } هذا التفات عن خطاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمرهم إلى خطاب جماعة المؤمنين الذين معه، يقول: لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون في القعود في جماعتكم أيها المؤمنون ما زادوكم شيئا من الأشياء إلا خبالا، أي: اضطرابا في الرأي، وفسادا في العمل، وضعفا في القتال، وخللا في النظام؛ فإن الخبال كما قال الراغب: هو الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطرابا كالجنون، والمرض المؤثر في العقل والفكر. والمراد: ما زادوكم قوة ومنعة وإقداما، كما هو شأن القوة العددية المتحدة في العقيدة والمصلحة، بل ضعفا وفشلا ومفسدة، كما حصل في غزوة حنين؛ فإن المنافقين ولوا الأدبار في أول المعركة، وتبعهم ضعفاء الإيمان من المؤلفة قلوبهم من طلقاء فتح مكة، فاضطرب لذلك الجيش كله، وفسد نظامه، فولى أكثر المؤمنين معهم بلا روية ولا تدبر، كما هو شأن جماعات البشر في مثل هذه الأحوال.
{ ولأوضعوا خلالكم } الوضع والإيضاع كما في التاج: أهون سير الدواب، وقيل: ضرب من سير الإبل دون الشد، وقيل: هو فوق الخبب. قال الأزهري: ويقال: وضع الرجل إذا عدى أي: أسرع وهو مجاز، ويقال: أوضع راحلته اهـ وخلال الأشياء: ما يفصل بينها من فروج ونحوها، والمعنى: ولأوضعوا ركائبهم - أو - ولأسرعوا في الدخول في خلالكم وما بينكم سعيا بالنميمة، وتفريق الكلمة { يبغونكم الفتنة } أي: حال كونهم يبغون بذلك أن يفتنوكم بالتشكيك في الدين، والتثبيط عن القتال، والتخويف من قوة الأعداء { وفيكم سماعون لهم } أي: وفيكم أناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم والعقل كثيرو السمع لهم؛ لاستعدادهم لقبول وسوستهم، وقيل: أناس نمامون يسمعون لأجلهم ما يعنيهم من أقوالكم فيلقونها إليهم، وهو بعيد وإن رجحه الطبري وقدمه الزمخشري، وسماع التشديد صيغة مبالغة لا يختص بما قاله الطبري فيها؛ فإن أولئك المنافقين الذين استأذنوا لم يكونوا معروفين متميزين بحيث تكون لهم هيئة مجتمعة في الجيش تتخذ الجواسيس لتنظيم عملها.
{ والله عليم بالظالمين } من هؤلاء وغيرهم، أي: محيط علما بذواتهم وسرائرهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر، وبما هم مستعدون له في كل حال مما وقع، ومما لم يقع ولا يقع، ككون هؤلاء المنافقين لا يزيدون المؤمنين لو خرجوا فيهم إلا خبالا إلخ. فهو كقوله في حلفاء اليهود منهم الذين كانوا يغرونهم بعداوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويغرونهم بما يعدونهم به من نصرهم عليه الذي حكاه عنهم في سورة الحشر وكذبهم فيه بقوله:
{ { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون } [الحشر: 12] فأحكامه تعالى فيهم على علم تام، ليس فيها ظن، ولا اجتهاد كاجتهاد الرسول في الإذن لهم، الذي تثبت هذه الآية نفسها أنه مبني على أصل صحيح، وهو أن خروجهم شر لا خير، وضعف لا قوة، ولكنه لم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم؛ لأن هذا من الغيب لا يعلمه إلا الله ومن أعلمه الله، ولم يعلمه تعالى بذلك قبل نزول هذه الآيات.
فاجتهاده صلوات الله وسلامه عليه فيهم كاجتهاده في الإعراض عن الأعمى (عبد الله بن أم مكتوم) عندما جاءه وهو يدعو أكابر رجال قريش إلى الإسلام، وقد لاح له بارقة رجاء في إيمانهم بتحدثهم معه، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم أن إقباله عليه ينفرهم، ويقطع عليه طريق دعوتهم، وكان يرجو بإيمانهم انتشار الإسلام في جميع العرب فتولى عنه، وتلهى بهذه الفكرة، ولم يكن يعلم قبل إعلام الله تعالى أن سنته في البشر أن يكون أول من يتبع الأنبياء والمصلحين فقراء الأمم وأوساطها، دون أكابر مجرميها المترفين ورؤسائها الذين يرون في اتباع غيرهم ضعة بذهاب رياستهم، ومساواتهم لمن دونهم إلخ. فيكفرون عنادا ويجحدون بآيات الله استكبارا لا اعتقاداً.
وكان من حكمة الله عز وجل في تربية رسوله وتكميله أن يبين له بعض الحقائق بعد اجتهاده الشخصي البشري فيها؛ لتكون أوقع في نفسه وأنفس أتباعه، فيحرصوا على العمل بمقتضاها، ولا يبيحوا لأنفسهم تحكيم آرائهم أو أهوائهم فيها، وكذلك كان سلفنا الصالحون الذين أورثهم الله بهداية كتابه وسنة رسوله الأرض من بعد أهلها، فخلف من بعدهم خلف تركوها، فغلب عليهم الجهل والنفاق، فسلبهم ذلك الملك العظيم، فهل يفقه أهل عصرنا ويعتبرون؟ ومتى يتدبرون ويهتدون؟.
{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل } أي: تالله لقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة في المسلمين من قبل هذا العهد - عهد غزوة تبوك - وأوله ما كان في غزوة أحد
{ { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } [آل عمران: 122] وذلك أنهم لما خرجوا إلى أحد اعتزلهم عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين بنحو ثلث الجيش في موضع يسمى الشوط، بين المدينة وأحد، وطفق يقول لهم في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أطاعهم وعصاني. وفي رواية: أطاع الولدان ومن لا رأي له، فما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا؟ وكان رأي ابن أبي لعنه الله عدم الخروج إلى أحد، ورأي الجمهور - ولا سيما الشبان - الخروج فعمل ـ صلى الله عليه وسلم ـ برأي الأكثر على أنه كان خلاف رأيه أيضا، فرجع ابن أبي بمن اتبعه من المنافقين، وكاد يفشل بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج بقوله وفعله، فعصمهما الله تعالى من الفتنة بفضله، وذلك قوله تعالى: { { والله وليهما } [آل عمران: 122] وتقدم تفصيل ذلك في الكلام على غزوة أحد من تفسير الجزء الرابع.
{ وقلبوا لك الأمور } أي: دبروا لك الحيل والمكايد، ودوروا الآراء في كل وجه من وجوهها لإبطال دينك، وفض قومك من حولك، فإن تقليب الشيء تصريفه في كل وجه من وجوهه، والنظر في كل ناحية من أنحائه؛ ليعلم أيها الأولى بالاختيار. وما زال لهؤلاء المنافقين ضلع مع اليهود، وضلع مع المشركين، في كل ما فعلا من عداوتك وقتال المؤمنين { حتى جاء الحق } بالنصر الذي وعدك به ربك، وكانوا به يمترون، { وظهر أمر الله وهم كارهون } أي: ظهر دين الله على الدين كله بالتنكيل باليهود الغادرين، والنصر على المشركين، وإبطال الشرك بفتح مكة، ودخول الناس في الإسلام أفواجا، وهم كارهون لذلك، حتى كانوا بعد الفتح يمنون أنفسهم بظهور المشركين على المؤمنين في حنين.
وقد روى ابن جرير والطبري في تفسير الآية من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم، كل قد حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لم يحدث بعض، وكل قد اجتمع حديثه في هذا الحديث أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة الحر، وجدب من البلاد. وحين طاب الثمر، وأحبت الظلال، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي صمد له؛ ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاد وأخبرهم أنه يريد الروم، فتجهز الناس على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه، لما فيه مع ما عظموا من ذكر الروم وغزوهم، ثم إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جد في سفره فأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله.
فلما خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي بن سلول عسكره على ذي حدة أسفل منه نحو ذباب جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وكان عبد الله بن أبي أخا بني عوف بن الخزرج، وعبد الله بن نبتل أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن يزيد بن التابوت أخا بني قينقاع، وكانوا من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله، قال: وفيهم - كما ثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري - أنزل الله: { لقد ابتغوا الفتنة من قبل } الآية اهـ. وأول هذا التلخيص موافق لما لخصناه من قبل، وبقية ما ذكره عن ابن أبي وعسكره فيه مبالغة أشار الطبري إلى عدم ثقته بها بقوله: (فيما يزعمون) وتقدمت رواية من قال: إن المتخلفين 36 رجلا.
وزعم بعض المفسرين أن المراد بالفتنة في هذه الآية محاولة المنافقين اغتيال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند خروجهم هذا. والصواب أن هذه الحادثة وقعت في أثناء العودة من تبوك، وهي المشار إليها في آية
{ { وهموا بما لم ينالوا } [التوبة: 74] وسيأتي بيانها.