قوله تعالى: { وَجَاء مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ } يعني من وسط المدينة، وهو حبيب بن إسرائيل النجار { رَجُلٌ يَسْعَىٰ } يعني يسعى في مشيه، وقال بعضهم هو الذي عاش ابنه بعد الموت بدعاء الرسل، فجاء وأسلم، وقال بعضهم: كان ابنه مريضاً فبرىء بدعوة الرسل، فصدق بهم، فلما بلغه أن القوم أرادوا قتل الرسل جاء ليمنع الناس عن قتلهم، وقال قتادة: كان في غار يدعو ربه، فلما بلغه مجيء الرسل أتاهم { قَالَ يَـا قَوْمٌ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } يعني دين المرسلين، ثم قال للرسل هل تسألون على هذا أجراً؟ فقالوا لا، فقال للقوم: { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْـئَلُكُمْ أَجْراً } يعني على الإيمان { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } يدعوكم إلى التوحيد، فقال له قومه: تبرأت عن ديننا واتبعت دين غيرنا فقال { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِى فَطَرَنِى } يعني خلقني، قرأ حمزة وابن عامر في إحدى الروايتين { وَمَا لِىَ } بسكون الياء، وقرأ الباقون بالفتح، وهما لغتان وكلاهما جائز ثم قال { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يعني تصيرون إليه بعد الموت، وهذا كقوله:
{ { وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [آل عمران: 180] فقالوا له ارجع إلى ديننا، فقال حبيب { أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَةً } يعني أعبد من دونه أصناماً { إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرّ } يعني ببلاء وشدة إذا فعلت ذلك { لاَّ تُغْنِ عَنّى شَفَـٰعَتُهُمْ شَيْئاً } يعني لا تقدر الآلهة أن يشفعوا لي { وَلاَ يُنقِذُونَ } يعني لا يدفعون عني الضرر { إِنّى إِذاً لَّفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } يعني إني إذا فعلت ذلك لفي خسران بين { إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } يعني فاشهدوني وأعينوني بقول: لا إلٰه إلا الله وقال ابن عباس: أُلقي في البئر، وهو الرس، كما قال { { وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ } [ق: 12]، وقال قتادة قتلوه بالحجارة وهو يقول: رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وقال مقاتل أخذوه ووطؤوه تحت أقدامهم حتى خرجت أمعاؤه ثم ألقي في البئر، وقتلوا الرسل الثلاثة فلما ذهب بروح حبيب النجار إلى الجنة فــ { قِيلَ } له { ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى } وذلك حين دخلها، وعاين ما فيها من النعيم، تمنى أن يسلم قومه، فقال: { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى } بالذي غفر لي ربي، ويقال: بمغفرتي، ويقال: بماذا غفر لي ربي، فلو علموا لآمنوا بالرسل، ثم قال: { وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } أي الموحدين في الجنة نصح لهم في حياته، وبعد وفاته، يقول الله تعالى { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ ٱلسَّمَاء } يعني من بعد حبيب النجار { مِن جُندٍ } من السماء يعني الملائكة { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } يعني لم نبعث إليهم أحداً { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً } يعني ما كانت إلا صيحة جبريل عليه السلام { فَإِذَا هُمْ خَـٰمِدُونَ } يعني ميتون لا يتحركون { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } يعني يا ندامة على العباد في الآخرة، يعني يقولون يا حسرتنا على ما فعلنا بالأنبياء عليهم السلام { مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ } في الدنيا { إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ثم خوف المشركين بمثل عذاب الأمم الخالية ليعتبروا، فقال { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا } يعني ألم يعلموا، ويقال: ألم يخبروا كم أهلكنا { قَبْلَهُمْ مّنَ ٱلْقُرُونِ } يعني كم عاقبنا من القرون الماضية { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } إلى الدنيا { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } قرأ عاصم وحمزة وابن عامر، بتشديد الميم، وقرأ الباقون بالتخفيف، فمن قرأ بالتشديد فمعناه: وما كل إلا جميع، ومن قرأ بالتخفيف فما: زائدة ومؤكدة، والمعنى وإن كل لجميع لدينا محضرون، يعني يوم القيامة محضرون عندنا، ثم وعظهم كي يعتبروا من صنعه، فيعرفوا توحيده.