خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ
٢٩
قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ
٣٠
يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
٣١
وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٢
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٣٣
وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٣٤
فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٣٥
-الأحقاف

بحر العلوم

قوله تعالى { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ } وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث خرت الأصنام على وجوهها في تلك الليلة، فصاح إبليس صيحة فاجتمع إليه جنوده فقال لهم: قد عرض أمر عظيم امضوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، يعني امشوا وانظروا ماذا حدث من الأمر، وروى ابن عباس، أنه لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - حيل بين الشياطين وبين السماء وأرسل عليهم الشهب، فجاؤوا إلى إبليس فأخبروه بذلك، قال هذا الأمر حادث اضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فجاء نفر منهم فوجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي تحت نخلة في سوق عكاظ ومعه ابن مسعود وأصحابه، وكان يقرأ سورة طه في الصلاة، وروى وكيع عن سفيان عن عاصم، عن رجل، عن زر بن حبيش في قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنِّ } قال كانوا تسعة أحدهم زوبعة أتوه ببطن نخلة { يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ } وروى عكرمة عن الزبير قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء الأخيرة، فلما حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعضهم لبعض: أنصتوا للقرآن واستمعوا { فَلَمَّا قُضِىَ } يعني فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من القراءة والصلاة { وَلَّوْاْ } يعني رجعوا { إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } قال مقاتل يعني المؤمنين، وقال الكلبي يعني مخوفين، وقال مجاهد: ليس في الجن رسل، وإنما الرسل في الإنس والنذارة في الجن، ثم قرأ { فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } يعني أنذروا قومهم من الجن { قَالُواْ قومنا إِنَّا سَمِعْنَا } من محمد - صلى الله عليه وسلم - { كِتَـٰباً } يعني قراءة القرآن { أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } يعني أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني موافقاً لما قبله من الكتب { يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ } يعني يدعو إلى توحيد الله تعالى من الشرك كما هو في سائر الكتب { وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } لا عوج فيه، يعني دين الله تعالى وهو الإسلام { يٰقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ ٱللَّهِ } يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وَآمِنُواْ بِهِ } يعني صدقوا به وبكتابه { يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } وَمِنْ: صلة في الكلام، يعني يغفر لكم ذنوبكم إن صدقتم وآمنتم { وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يعني يؤمنكم من عذاب النار { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ ٱللَّهِ } يعني من لم يجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يدعو إليه من الإيمان { فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى ٱلأَرْضَ } يعني لا يستطيع أن يهرب في الأرض، من عذاب الله تعالى، ويقال معناه فلن يجد الله عاجزاً عن طلبه { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } يعني ليس له أنصار يمنعونه مما نزل به من العذاب { أُوْلَـٰئِكَ فِى ضَلَـٰلٍ } يعني في خطأ { مُّبِينٌ } وذكر في الخبر: أنهم لما أنذرهم وخوفهم جاء جماعة منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فلقيهم بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن، فأمرهم ونهاهم وكان معه عبد الله بن مسعود وَخَطَّ له النبي - صلى الله عليه وسلم - خطاً وقال له "لا تخرج من هذا الخط، فإنك إنْ خَرَجْتَ لَنْ تَرَانِي إلى يَوم القيامة، فلما رجع إليه قال: يا نبي الله سمعت هَدَّتين أي صوتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما إحداهما فإني سلمت عليهم فردوا عليَّ السلام، وأما الثانية فإنهم سألوا الرزق فأعطيتهم عظماً رزقاً لهم، وأعطيتهم روثاً رزقاً لدوابهم"

ثم قال تعالى { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } يعني أو لم يعتبروا ويتفكروا، ويقال أولم يخبروا { أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَق ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } يعني: لم يعجز عن خلق السماوات والأرض، فكيف يعجز عن بعث الموتى، ويقال: { وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ } يعني: لم يعيه خلقهن، ولم يعي بخلقهن بِقَادِرٍ { عَلَىٰ أَن يُحْييِ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ } لأنهم كانوا مقرين بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، وكانوا منكرين للبعث بعد مماتهم، فأخبرهم الله تعالى بأن الذي كان قادراً على خلق السماوات والأرض، يكون قادراً على إحيائهم بعد الموت، ثم قال { بَلَىٰ } يعني: هو قادر على البعث { إِنَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } من الإحياء والبعث { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } يعني: يكشف الغطاء عنها، ويقال يساق الذين كفروا إلى النار، ويقال لهم { أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقّ } يعني: أليس هذا العذاب الذي ترون حقاً وكنتم تكذبون به { قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبّنَا } إنه الحق، (وَرَبّنَا) هو الله، ويقال: والله إنه لحق، فيقرون حين لا ينفعهم إقرارهم، قال فيقال لهم { قَالَ فَذُوقُواْ ٱلعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي تجحدون { فَٱصْبِرْ } يا محمد يعني: اصبر على أذى أهل مكة وتكذيبهم { كَمَا صَبَرَ أُوْلُو ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } يعني: أولو الحزم، وهو أن يصبر في الأمور، ويثبت عليها، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يدعو عليهم، فأمره الله تعالى بالصبر كما صبر نوح، وكما صبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وقال السدي: أولو العزم: الذين أمروا بالقتال من الرسل، وقال أبو العالية: أولو العزم من الرسل كانوا ثلاثة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رابعهم، إبراهيم وهود ونوح، فأمره الله تعالى أن يصبر كما صبروا وقال مقاتل: أولو العزم من الرسل اثني عشر نبياً في بيت المقدس، فأوحى الله إليهم ثلاث مرات أن اخرجوا من بين أقوامكم، فلم يخرجوا، فقال الله تعالى يمضي العذاب عليكم مع قومكم، فتشاوروا فاختاروا هلاك أنفسهم بينهم { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } يعني: لا تستعجل لهم بالعذاب { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } يعني: العذاب قد أتاهم من قريب في الآخرة، فلقربه كأنهم يرونه في الحال، ويقال: في الآية تقديم وتأخير، كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة في الدنيا، يعني: إذا أتاهم ذلك اليوم يرون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا القليل فذلك قوله: { لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ } يعني: من نهار الدنيا، ويقال يعني: في القبور، وقال أبو العالية: معناه كأنهم يرون حين يظنون أنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ثم قال: { بَلاَغٌ } يعني: ذلك بلاغ وبلغه وأجل، فإذا بلغوا أجلهم ذلك { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } يعني هل يهلك في العذاب، إذا جاء العذاب إلا القوم العاصون، ويقال معناه: لا يهلك مع رحمة الله وفضله، إلا القوم الفاسقون، ويقال: بلاغ يعني: هذا الذي ذكر بلاغ أي تمام العظة، ويقال هو من الإبلاغ، أي هذا إرسال وبيان لهم كقوله { هَـٰذَا بَلَـٰغٌ لّلنَّاسِ }.

والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.