خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٤
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ
١٧٥
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
١٧٦
لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ
١٧٧
-البقرة

معالم التنزيل

قوله تعالىٰ: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ } «نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم، فلما نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتبعوه» فأنزل الله تعالىٰ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ } يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته { وَيَشْتَرُونَ بِهِ } أي بالمكتوم { ثَمَنًا قَلِيًلا } أي عوضاً يسيراً يعني المآكل التي يصيبونها من سفلتهم { أُوْلَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ } يعني إلا ما يؤديهم إلى النار وهو الرشوة والحرام وثمن الدين، فلما كان يفضي ذلك بهم إلى النار فكأنهم أكلوا النار وقيل معناه أنه يصير ناراً في بطونهم { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ. وقيل: أراد به أنه يكون عليهم غضبان، كما يقال: فلان لا يكلم فلاناً إذا كان عليه غضبان { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي لا يطهرهم من دنس الذنوب { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } قال عطاء والسدي: هو ما: استفهام معناه ما الذي صبرهم على النار وأي شيء يصبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل وقال الحسن وقتادة: والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار قال الكسائي: فما أصبرهم على عمل أهل النار أي ما أدومهم عليه { ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ } يعني ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق فأنكروه وكفروا به وحينئذ يكون ذلك في محل الرفع وقال بعضهم محله نصب معناه فعلنا ذلك بهم بأن الله أي لأن الله نزل الكتاب بالحق فاختلفوا فيه وقيل معناه ذلك أي فعلهم الذي يفعلون من الكفر والاختلاف والاجتراء على الله من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق وهو قوله تعالىٰ { إنَّ الَّذِين كَفَرُواْ سَوآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أمْ لمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } } [البقرة: 6-7] { وَإنَّ الَّذِينَ اختَلَفُواْ فِي الكِتَابِ } فآمنوا ببعض وكفروا ببعض { لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي في خلاف وضلال بعيد.

قوله تعالى: { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } قرأ حمزة وحفص: ليس البرَّ بنصب الراء والباقون برفعها، فمن رفعها جعل { البرَّ } اسم ليس، وخبره قوله: أن تولوا، تقديره: ليس البر توليتكم وجوهكم. ومن نصب جعل { أَن تُوَلُّواْ } في موضع الرفع على اسم ليس تقديره: ليس توليتكم وجوهكم البر كله، كقوله تعالىٰ { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ } [الجاثية: 25].

والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة، واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية، فقال قوم: عنى بها اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قِبَل المشرق، وزعم كل فريق منهم: أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالىٰ أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان. وقال الآخرون: المراد بها المؤمنون وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإِسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة.

فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وحددت الحدود وصرفت القبلة إلى الكعبة أنزل الله هذه الآية فقال: { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ } أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ } ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك. { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ } قرأ نافع وابن عامر ولكن خفيفة النون البر رفع وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر.

قوله تعالىٰ: { مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ } جعل من وهي اسم خبر للبر هو فعل ولا يقال البر زيد واختلفوا في وجهه قيل لما وقع من في موضع المصدر جعله خبراً للبر كأنه قال ولكن البر الإِيمان بالله والعرب تجعل اسم خبراً للفعل وأنشد الفراء:

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحىولكنما الفتيان كل فتى ندي

فجعل نبات اللحى خبراً للفتى وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر بر من آمن بالله فاستغنى بذكر الأول عن الثاني كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن بالله كقوله تعالىٰ: { { هُمْ دَرَجاتٌ عِندَ ٱللَّهِ } [آل عمران: 163] أي ذو درجات وقيل معناه ولكن البار من آمن بالله كقوله تعالىٰ { { وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ } [طه: 132] أي للمتقي والمراد من البر هاهنا الإِيمان والتقوى.

{ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ وَٱلْمَلَـٰئِكَةِ } كلهم { وَٱلْكِتَـٰبِ } يعني الكتب المنزلة { وَٱلنَّبِيِّينَ } أجمع { وَءَاتَى ٱلْمَالَ } أعطى المال { عَلَى حُبِّهِ } اختلفوا في هذه الكناية فقال أكثر أهل التفسير: إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال قال ابن مسعود: أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا عبد الواحد ثنا عمارة بن القعقاع أنا أبو زرعة أخبرنا أبو هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان" .

وقيل: هي عائدة على الله عز وجل أي على حب الله تعالىٰ.

{ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ } أهل القرابة.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن اسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا قتيبة أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سلمان بن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة" .

قوله تعالىٰ: { وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } قال مجاهد: يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق، وقيل: هو الضيف ينزل بالرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" .

{ وَٱلسَّآئِلِينَ } يعني الطالبين.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري وهو عبد الرحمٰن بن بجيد عن جدته وهي أم بجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رُدُّوا السائل ولو بِظِلف مُحْرَقٍ" وفي رواية قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجدي شيئاً إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه"

قوله تعالىٰ: { وَفِي ٱلرِّقَابِ } يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين وقيل: عتق النسمة وفك الرقبة وقيل: فداء الأسارى { وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ } وأعطى الزكاة { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ } فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس { إِذَا عَـٰهَدُواْ } يعني إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا أوفوا، وإذا عاهدوا أوفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدوا، واختلفوا في رفع قوله والموفون قيل هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم وقيل تقديره: وهم الموفون كأنه عد أصنافاً ثم قال: هم والموفون كذا، وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال { وَٱلصَّابِرِينَ } وفي نصبها أربعة أوجه:

قال أبو عبيدة: نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإِعراب إذا طال الكلام والنسق ومثله في سورة النساء { { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَ } [النساء: 162] (والصابئون والنصارى)، وقيل معناه أعني الصابرين، وقيل: نصبه نسقاً على قوله ذوي القربى أي وأتي الصابرين.

وقال الخليل: نصب على المدح والعرب تنصب الكلام على المدح والذم [كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه فالمدح كقوله تعالىٰ: { { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَ } [النساء: 162].

والذم كقوله تعالىٰ { { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ } [الأحزاب: 61].

قوله تعالىٰ { فِى ٱلْبَأْسَآءِ } أي الشدة والفقر { وٱلضَّرَّآءِ } المرض والزمانة { وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } أي القتال والحرب.

أخبرنا المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا زهير عن أبي إسحاق عن حارثة بن مُضَرِّب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا إذا احمرَّ البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. يعني: إذا اشتد الحرب { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } في إيمانهم { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }.