خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٥٦
-البقرة

معالم التنزيل

قوله عز وجل: { اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر أيُّ آية من كتاب الله أعظم قلت: { اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } قال فضرب في صدري ثم قال: لِيَهْنِكَ العلم ثم قال: والذي نفس محمد بيده إن لهذه الآية لساناً وشفتين تقدِّس المَلِك عند ساق العرش" .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف عن محمد بن اسماعيل قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو: أخبرنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني مُحتاج وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة قال: فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله قال: أما إنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعليّ عيال ولا أعود، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله قال: أما إنه قد كذبك وسيعودفرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي { اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال: وما هي؟ قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية { اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } وقال: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص الناس على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة قلت: لا قال: ذاك شيطان" .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو معاوية عن عبد الرحمٰن بن أبي بكر هو المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمٰن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول { حـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [غافر:1-2] حفظ في يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح" .

قوله تعالى: { اللهُ } رفع بالإِبتداء وخبره في { لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ } الباقي الدائم على الأبد وهو من له الحياة، والحياة صفة الله تعالىٰ { ٱلْقَيُّومُ } قرأ عمر وابن مسعود «القيام» وقرأ علقمة «القيم» وكلها لغات بمعنى واحد، قال مجاهد: { ٱلْقَيُّومُ } القائم على كل شيء وقال الكلبي: القائم على كل نفس بما كسبت وقيل هو القائم بالأمور. وقال أبو عبيدة: الذي لا يزول { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } السِّنة: النعاس وهو النوم الخفيف، والوسنان بين النائم واليقظان يقال منه وسن يسن وسناً وسنة والنوم هو الثقيل المزيل للقوة والعقل، قال المفضل الضبي: السِّنة في الرأس والنوم في القلب، فالسِّنة أول النوم وهو النعاس، وقيل السِّنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فهو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء، نفى الله تعالىٰ عن نفسه النوم لأنه آفة وهو منزه عن الآفات ولأنه تغير ولا يجوز عليه التغير.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا عبد الله ابن حامد أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا علي بن حرب أخبرنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، ولكنه يخفض القسط، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" . ورواه المسعودي عن عمرو بن مرة وقال: حجابه النار.

{ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } مِلْكاً وخَلْقاً { مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } بأمره { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } قال مجاهد وعطاء والسدي: { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الدنيا { وَمَا خَلْفَهُمْ } من أمر الآخرة، وقال الكلبي: { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها { وَمَا خَلْفَهُمْ } الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم، وقال ابن جريج: ما بين أيديهم ما مضى أمامهم وما خلفهم ما يكون بعدهم، وقال مقاتل: ما بين أيديهم، ما كان قبل خلق الملائكة وما خلفهم أي ما كان بعد خلقهم، وقيل: ما بين أيديهم أي ما قدموه من خير أو وشر وما خلفهم ما هم فاعلوه، { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } أي من علم الله { إِلاَّ بِمَا شَآءَ } أن يطلعهم عليه يعني لا يحيطون بشيء من علم الغيب إلا بما شاء مما أخبر به الرسل كما قال الله تعالىٰ: { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } [الجن: 26-27] قوله تعالىٰ: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي ملأ وأحاط به، واختلفوا في الكرسي فقال الحسن: هو العرش نفسه وقال أبو هريرة رضي الله عنه: الكرسي موضوع أمام العرش ومعنى قوله: «وسع كرسيه السموات والأرض» أي سعته مثل سعة السمٰوات والأرض.

وفي الأخبار: أن السمٰوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السمٰوات السبع والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس.

وقال علي ومقاتل: كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع، وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسي أربعة أملاك، لكل ملك أربعة وجوه، وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام، ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور وهو يسأل للإِنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل، وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة وفي بعض الأخبار أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام ولولا ذلك لاحترق حملة الكرسي من نور حملة العرش.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أراد بالكرسي علمه وهو قول مجاهد، ومنه قيل لصحيفة العلم كراسه، وقيل: كرسيه ملكه وسلطانه، والعرب تسمى الملك القديم كرسياً، { وَلاَ يَؤُودُهُ }، أي لا يثقله ولا يشق عليه يقال: آدني الشي أي أثقلني { حِفْظُهُمَا } أي حفظ السمٰوات والأرض { وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ } الرفيع فوق خلقه والمتعالي عن الأشياء والأنداد، وقيل العلي بالملك والسلطنة { ٱلْعَظِيمُ } الكبير الذي لا شيء أعظم منه.

قوله تعالى: { لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة - (المقلاة من النساء) التي لا يعيش لها ولد - وكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتُهَوِّدَنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود، فجاء الإِسلام وفيهم منهم فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا: هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت هذه الآية { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم" .

وقال مجاهد: كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبنَّ معهم ولنديننَّ بدينهم، فمنعهم أهلوهم، فنزلت { لاَ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ }.

وقال مسروق: كان لرجل من الأنصار من بن سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا انظر فأنزل الله تعالىٰ { لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فخلى سبيلهما.

وقال قتادة وعطاء: نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإِسلام، فلما أسلموا طوعاً أو كرها أنزل الله تعالىٰ: { لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإِسلام، وقيل كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنهما، { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } أي الإِيمان من الكفر والحق من الباطل { فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ } يعني الشيطان، وقيل: كل ما عبد من دون الله تعالىٰ فهو طاغوت، وقيل كل ما يطغي الإِنسان، فاعول من الطغيان، زيدت التاء فيه بدلاً من لام الفعل، كقولهم حانوت وتابوت، فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث، { وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ } أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين، والوثقى تأنيث الأوثق وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالىٰ: { لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا } لا انقطاع لها { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ }: قيل: لدعائك إياهم إلى الإِسلام { عَلِيمٌ } بحرصك على إيمانهم.