خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
١٨
هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ
١٩
-الحج

معالم التنزيل

{ أَلَمْ تَرَ }، ألم تعلم، وقيل: { أَلَمْ تَرَ } تقرأ بقلبك { أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ }، قال مجاهد: سجودها تحول ظلالها. وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجداً حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه. وقيل: سجودها بمعنى الطاعة فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله خاشع لله مسبح له كما أخبر الله تعالى عن السموات والأرض { { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِين } [فصلت: 11]، وقال في وصف الحجارة { { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [البقرة: 74]، وقال تعالى: { وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44]، وهذا مذهبٌ حسنٌ موافق لقول أهل السنة.

قوله: { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ }، أي: من هذه الأشياء كلها تسبح الله عزّ وجلّ "وكثير من الناس"، يعني المسلمين. { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ }، وهم الكفار لكفرهم وتركهم السجود وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله عزّ وجلّ والواو في قوله: { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ }، واو الاستئناف.

{ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ } أي: يهنه الله { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } أي: من يذله اللهُ فلا يكرمه أحدٌ، { إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }، أي: يكرم ويهين فالسعادة والشقاوة بإرادته ومشيئته.

قوله عز وجل: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ } أي: جادلوا في دينه وأمره، والخصم اسم شبيه بالمصدر، فلذلك قال: { ٱخْتَصَمُواْ } بلفظ الجمع كقوله: { { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلمِحْرَابَ } [ص: 21]، واختلفوا في هذين الخصمين.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبر محمد بن إسماعيل، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، أخبرنا هشيم، أخبرنا أبو هاشم، عن أبي مِجْلَز، عن قيس بن عُباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسماً أن هذه الآية: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ } نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة، وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة.

وأخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا حجاج بن منهال، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعتُ أبي قال أخبرنا أبو مجلز، عن قيس بن عباد، عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، قال قيس: وفيهم نزلت: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ } قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.

قال محمد بن إسحاق خرج ـ يعني يوم بدر ـ عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة: عوذ ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء، وعبد الله بن رواحة فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، فقالوا حين انتسبوا: أكفاء كرام، ثم نادى مناديهم: يا محمد أَخْرِجْ إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة ابن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب، فلما دَنَوْا قالوا مَنْ أنتم؟ فذكروا وقالوا: نعم أكفاء كرام فبارز عبيدةَ وكان أسن القوم عتبةُ، وبارز حمزةُ شيبةَ، وبارز عليٌ الوليدَ بنَ عتبة، فأما حمزةُ فلم يُمهل أن قتل شيبةَ، وعليٌّ الوليدَ، واختلف عبيدةُ وعتبةُ بينهما ضربتان كلاهما أثبتَ صاحبَهُ، فكرَّ حمزةُ وعليٌ بأسيافهما على عتبةَ فذفّفا عليه واحتملا عبيدةَ إلى أصحابه، وقد قُطعت رجلُه ومخُّها يسيل، فلما أتَوْا بعبيدةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألستُ شهيداً يا رسول الله؟ قال: "بلى"، فقال عبيدةُ: لو كان أبو طالب حياً لعلمَ أنّا أحقُ بما قال منه حيث يقول:

ونسلمه حتى نصرع حولهونذهل عن أبنائنا والحلائل

وقال ابن عباس وقتادة: نزلت الآية في المسلمين وأهلِ الكتاب فقال أهلُ الكتاب: نحن أَولى بالله وأقدمُ منكم كتاباً، ونبيُّنا قبلَ نبيِّكم، وقال المؤمنون: نحن أحقُّ بالله آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون نبيِّنا وكتابَنا وكفرتم به حسداً، فهذه خصومتهم في ربهم.

وقال مجاهد: وعطاء بن أبي رباح والكلبي: هم المؤمنون والكافرون كلُّهم من أي ملةٍ كانوا.

وقال بعضهم: جعل الأديان ستة في قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } [المائدة: 69] الآية، فجعل خمسة للنار وواحداً للجنة، فقوله تعالى: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ } ينصرف إليهم فالمؤمنون خَصْمٌ وسائرُ الخمسة خصمٌ.

وقال عكرمة: هما الجنة والنار اختصمتا كما أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد حسين القطان، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، قال: حدثنا أبو هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحاجَّتِ الجنةُ والنارُ فقالت النار: أُوثرتُ بالمتكبرين والمتجبرين، وقالتِ الجنةُ: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وسقَطُهم وغرَّتهُم؟ قال الله عزّ وجلّ للجنة: إنما أنتِ رحتمي أرحمُ بك مَنْ أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذابي أعذّبُ بك مَنْ أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما مِلْؤها، فأما النار فلا تمتلىء حتى يضعَ الله فيها رجله فتقول قَطْ قَطْ، فهنالك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله عزّ وجلّ ينشىء لها خَلْقاً" ثم بيّن الله عزّ وجلّ ما للخصمين فقال:

{ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ }، قال سعيد بن جبير: ثياب من نحاس مذاب، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حراً منه وسُمي باسم الثياب لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب.

وقال بعضهم: يلبس أهل النار مُقَطَّعات من النار، { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ }، الحميم: هو الماء الحار الذي انتهت حرارته.