وقوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً }، أي: خالياً من كل شيء إلاّ من ذكر موسى وهمه، وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن: "فارغاً" أي: ناسياً للوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن، والعهد الذي عهد أن يرده إليها ويجعله من المرسلين، فجاءها الشيطان فقال: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنتِ قتله فألقيته في البحر، ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت: إنه وقع في يد عدوه الذي فررت منه، فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها.
وقال أبو عبيدة: "فارغاً" أي: فارغاً من الحزن لعلمها بصدق وعد الله تعالى، وأنكر القتيبي هذا، وقال: كيف يكون هذا والله تعالى يقول: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلى قَلْبِها}؟ والأول أصح.
قوله عزّ وجلّ: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ}، قيل الهاء في "به" راجعة إلى موسى، أي: كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة وجدها. وقال عكرمة عن ابن عباس: كادت تقول: وابناه. وقال مقاتل: لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها. وقال الكلبي: كادت تظهر أنه ابنها، وذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعدما شبَّ: موسى ابن فرعون، فشق عليها وكادت تقول: بلى هو ابني. وقال بعضهم: الهاء عائدة إلى الوحي أي: كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أن يردّه إليها.
{لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا}، بالعصمة والصبر والتثبيت، {لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}، المصدقين لوعد الله حين قال لها: {إِنَّا رادوهُ إِلَيْكِ}.
{وَقَالَتْ لأُخْتِهِ}، أي: لمريم أخت موسى.{قُصِّيهِ}, اتبعي أثره حتى تعلمي خبره، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ}, أي: عن بعد، وفي القصة أنها كانت تمشي جانباً وتنظر اختلاساً تُري أنها لا تنظره، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }، أنها أخته وأنها ترقبه. قال ابن عباس: إن امرأة فرعون كان همها في الدنيا أن تجد له مرضعة، وكلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها، فذلك قوله عزّ وجلّ:
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ}، والمراد من التحريم المنع، والمراضع: جمع المرضع، {مِن قَبْلُ}، أي: من قبل مجيء أم موسى، فلما رأت أختُ موسى التي أرسلتها أمه في طلبه ذلك قالت لهم: هل أدلكم؟ وفي القصة أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثدياً ويصيح وهم في طلب مرضعة له.
{فَقَالَتْ}، يعني أخت موسى، {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ}، أي يضمونه {لَكُمْ}، ويرضعونه، وهي امرأة قد قتل ولدها فأحبُّ شيء إليها أن تجد صغيراً ترضعه، {وَهُمْ لَهُ نَـٰصِحُونَ}، والنصح ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد، قالوا: نعم فَأتِينا بها. قال ابن جريج والسدي: لما قالت أخت موسى: "وهم له ناصحون" أخذوها وقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله فقالت: ما أعرفه، وقلت هم للملك ناصحون.
وقيل: إنها قالت: إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به.
وقيل إنها لما قالت: "هل أدلكم على أهل بيت" قالوا لها: من؟ قالت: أمي، قالوا: أو لأمك ابن؟ قالت: نعم هارون، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها، قالوا: صدقت، فأتينا بها، فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها، وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قَبِل ثديها، وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه رياً.
قال السدي: كانوا يعطونها كل يوم ديناراً فذلك قوله تعالى:
{فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا}، بردِّ موسى إليها، {وَلاَ تَحْزَنَ}، أي لئلا تحزن، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ}، برده إليها، {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أن الله وعدها ردَّه إليها.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}، قال الكلبي: الأشد ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة. قال مجاهد وغيره: ثلاث وثلاثون سنة، {وَٱسْتَوَىٰ}، أي: بلغ أربعين سنة، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقيل: استوى انتهى شبابه {ءَاتَيْنَـٰهُ حُكْماً وَعِلْماً}، أي: الفقه والعقل والعلم في الدين، فعلم موسى وحكم قبل أن يُبعث نبياً، {وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ}.