خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

معالم التنزيل

قوله عز وجل: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } الآية، والمراد من السُّكْرِ: السُّكرُ من الخمر، عند الأكثرين.

وذلك أنّ عبدَ الرحمن بنَ عوف رضي الله عنه صنَع طَعاماً ودَعَا نَاساً من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوها قبل تحريم الخمر وسَكِرُوا فحضرت صلاة المغرب فقدّمُوا رجلاً ليصلي بهم فقرأ (قلْ يا أيها الكافرون) أعبد ما تعبدون، بحذف (لا) هكذا إلى آخر السورة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصلوات حتى نزل تحريم الخمر.

وقال الضحاك بنُ مزاحم: أراد به سكر النوم، نهى عن الصلاة عند غلبة النوم.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن المغلِّس أنا هارون بن إسحاق الهمذاني أخبرنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "إذا نَعِسَ أحدُكم وهو يصلي فليرقُدْ حتى يذهب عنه النومُ فإنّ أحدَكم إذا صلى وهو ينعسُ لعلّه يذهبُ يستغفرُ فيسبُ نفسه"

قوله تعالى: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً }، نصبٌ على الحال، يعني: ولا تقربُوا الصلاة وأنتم جُنُبٌ، يقال: رجلٌ جنبٌ وامرأةٌ جنبٌ، ورجالٌ جنبٌ ونساءٌ جنبٌ. وأصل الجنابةِ: البُعْد، وسُمّي جنباً لأنه يتجنّب موضعَ الصلاة، أو لمجانبته الناسَ وبُعدِهِ منهم، حتّى يغتسلَ. قوله تعالى: { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ }، اختلفوا في معناه، فقالوا: [إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون الماء فتيمّموا، منعَ الجنب من الصلاة حتى يغتسل] إلا أن يكون في سفر ولا يجد ماء فيصلي بالتيمم، وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد رضي الله عنهم. وقال الآخرون: المراد من الصلاة موضع الصلاة، كقوله تعالى: { وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ } [الحج: 40]، ومعناه: لا تقربُوا المسجدَ وأنتم جنبٌ إلاّ مجتازين فيه للخروج منه، مثل أن ينام في المسجد فيجنب أو يصيبه جنابة والماء في المسجد أو يكون طريقه عليه، فيمرّ فيه ولا يقيم وهذا قول عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والضحاك والحسن وعكرمة والنخعي والزهري، وذلك أنّ قوماً من الأنصار كانت أبوابُهم من المسجد فتصيبهم الجنابة ولاَ ماءَ عندهم ولا ممرَّ لهم إلاَّ في المسجد، فرُخّص لهم في العُبور. واختلف أهل العلم فيه: فأباح بعضهم المرورَ فيه على الإِطلاق، وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله، ومنع بعضهم على الإِطلاق وهو قول أصحاب الرأي، وقال بعضهم: يتيمم للمرور فيه. أما المُكث فلا يجوز عند أكثر أهل العلم.

لِمَا روينا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: "وجِّهُوا هذه البيوت عن المسجد فإنّي لا أُحِلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا جنب"

وجوّز أحمد المكث فيه وضعّف الحديث لأنّ راويه مجهول، وبه قال المزني. ولا يجوز للجنب الطوافُ كما لا يجوز له الصلاةُ ولا يجوز له قراءةُ القرآن.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شُريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا شعبة أخبرني عمرو ابن مرة قال سمعت عبد الله بنَ سلمة يقول: دخلتُ على عليّ رضي الله عنه فقال: " كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقضي الحاجةَ ويأكلُ معنا اللّحم ويقرأُ القرآن وكان لا يَحْجُبُه أو لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلاّ الجنابة" .

وغُسل الجنابة يجب بأحد الأمرين: إما بنزول المني أو بالتقاء الختانين، وهو تغييب الحشفة في الفرج وإن لم يُنزل، وكان الحكم في الابتداء أنّ من جامع امرأته فأكسل لا يجب عليه الغسل ثم صار منسوخاً.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري سأل عائشة رضي الله عنها عن التقاء الختانين فقالت عائشة:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان، أو مَسّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل"

قوله تعالى: { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ }، جمع مريض، وأراد به مرضاً يضره إمساسُ الماء مثل الجدرى ونحوه، أو كان على موضع طهارته جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التَّلفَ أو زيادةَ الوجع، فإنه يصلي بالتيمم وإن كان الماء وحوداً، وإن كان بعض أعضاء طهارته صحيحاً والبعض جريحاً غسل الصحيح منها وتيمم للجريحِ، لِما

أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني أنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي أنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني أنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي أنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خُرَيق عن جابر بن عبد الله قال:

"خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشجَّه في رأسه، فاحتلم فسأل أصحابه: هلْ تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلمّا قدمنا على النبي صلّى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنّما شفاء العي السؤال إنّما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب ـ شك الراوي - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" .

ولم يجوّز أصحاب الرأي الجمع بين التيمم والغسل، وقالوا: إن كان أكثر أعضائه صحيحاً غسل الصحيح ولا يتيمم عليه، وإن كان الأكثر جريحاً اقتصر على التيمم. والحديث حجة لمن أوجب الجمعَ بينهما. قوله تعالى: { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ }، أراد أنه إذا كان في سفر طويلاً كان أو قصيراً، وعُدم الماءُ فإنه يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه، لِما

رُوي عن أبي ذر قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: "إنّ الصّعيدَ الطّيبَ وضوءُ المسلم وإنْ لم يجدِ الماءَ عَشْرَ سنين، فإذا وَجَد الماءَ فليمسّه بَشَرَهُ" . أمّا إذا لم يكن الرجل مريضاً ولا في سفر لكنّه عدم الماءَ في موضع لا يُعدم فيه الماءُ غالباً بأن كان في قرية انقطع ماؤُها فإنه يصلي بالتيمم ثم يُعيد إذا قدر على الماء عند الشافعي، وعند مالك والأوزاعي لا إعادة عليه، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يؤخر الصلاة حتى يجد الماء. قوله تعالى: { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ }، أراد به إذا أحدث، والغائط: اسم للمطمئن من الأرض، وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكُنّي عن الحدث بالغائط، { أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ }، قرأ حمزة والكسائي { لَمَسْتُم } هاهنا وفي المائدة، وقرأ الباقون { لَـٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ }. واختلفوا في معنى اللّمس والمُلاَمسة، فقال قوم: المجامعة، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وكنّي باللّمس [عن الجماع لأنّ الجماع لا يحصل إلا باللمّس]. وقال قوم: هما التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع، وهو قول ابن مسعود وابن عمر، والشعبي والنخعي. واختلف الفقهاء في حكم الآية فذهب جماعة إلى أنه إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما، ينتقض وضوؤهما، وهو قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما، وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي رضي الله عنهم. وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق: إن كان اللّمس بشهوة نقض الطهر، وإن لم يكن بشهوة فلا ينتقض. وقال قوم: لا ينتقض الوضوءُ باللّمس بحال، وهو قول ابن عباس وبه قال الحسن و الثوري. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا ينتقض إلاّ أن يحدثَ الانتشار. واحتج من لم يوجب الوضوءَ باللّمس بما

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلم أنّها قالت: "كنتُ أنام بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضتُ رجليّ وإذا قام بسطتُهما" ، قالت والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي

أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلم قالت: "كنتُ نائمةً إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ففقدته من الليل فلمستُه بيدي فوضعتُ يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول: أعوذُ برضاكَ من سخطك وبمعافاتِك من عُقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ."

واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما لو لمس امرأة من محارمه كالأم والبنت والأخت أو لمس أجنبية صغيرة، أصح القولين أنه لا ينقض الوضوء لأنها ليست بمحل الشهوة كما لو لمس رجلاً. واختلف قوله في انتقاض وضوء الملموس على قولين، أحدهما: ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ كما يجب الغسل عليهما بالجماع، والثاني: لا ينتقض لحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت: فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد. ولو لمس شعر امرأةٍ أو سِنّها أو ظفرها لا ينتقض وضوءه عنده. واعلم أن المُحدِثَ لا تصح صلاتُه ما لم يتوضأ إذا وجد الماء أو يتيمم إذا لم يجد الماء.

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "لا تُقبل صلاةُ أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"

والحدَثُ هو خروج الخارج من أحد الفرجين عَيْناً كان أو أثراً، والغلبة على العقل بجنون أو إغماء على أي حال كان، وأمّا النوم فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يوجب الوضوء إلاّ أن ينام قاعداً متمكناً فلا وضوء عليه، لِمَا

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز الخلال أنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أنا الشافعي أنا الثقة عن حميد الطويل عن أنس رضي الله عنهما قال:

كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينتظرون العِشَاء فينامُون، أحسبُه قال قعوداً حتى تَخْفِقَ رؤُوسُهم ثم يُصلون ولا يتوضؤون.

وذهب قوم إلى أن النوم يُوجب الوضوءَ بكل حال وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها، وبه قال الحسن وإسحاق والمُزَني، وذهب قوم إلى أنه لو نام قائماً أو قاعداً أو ساجداً فلا وضوء عليه حتى ينام مضطجعاً وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي.

واختلفوا في مس الفرج من نفسه أو من غيره فذهب جماعة إلى أنه يُوجبُ الوضوءَ وهو قول عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنها، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان ابن يسار، وعروة بن الزبير، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي، وأحمد وإسحاق، وكذلك المرأة تَمُسُّ فرجَها، غير أن الشافعي رضي الله عنه يقول لا ينتقض إلا أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع. واحتجوا بما

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلتُ على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: مِنْ مسِّ الذكر الوضوء، فقال عروة: ما علمتُ ذلك، فقال مروان:

أخبرتني بُسرةُ بنت صفوان أنها سمعت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ"

وذهب جماعة إلى أنه لا يُوجب الوضوء، روي ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة وبه قال الحسن، وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي. واحتجوا بما

رُوي عن طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم سُئل عن مسِّ الرجلِ ذكرَه، فقال: "هلْ هو إلاّ بضعةٌ منك" ؟ ويُروى "هل هو إلا بضعة أو مضغة منه"

ومن أوجب الوضوء منه قال: هذا منسوخ بحديث بُسرة لأن أبا هريرة يروي أيضاً: أنّ الوضوء من مسِّ الذكر، وهو متأخّر الإِسلام، وكان قدوم طلق بن عليّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول زمن الهجرة حين كان يبني المسجد.

واختلفوا في خروج النجاسة من غير الفرجين بالفصد والحجامة وغيرهما من القيء ونحوه، فذهب جماعة إلى أنه لا يُوجب الوضوءَ، رُوي ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وبه قال عطاء وطاووس والحسن وسعيد بن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي. وذهبت جماعة إلى إيجاب الوضوء بالقيء والرعاف والفَصْد والحِجَامة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق. واتفقوا على أن القليل منه وخروج الريح من غير السبيلين لا يُوجبُ الوضوءَ ولو أوجبَ الوضوءَ كثيره لأوجب قليلُه كالفرج.

{ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ }، اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة.

روى حُذيفةُ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "فُضّلْنَا على الناس بثلاثٍ: جُعلتْ صفوفُنا كصُفوف الملائكة، وجُعلتْ لنا الأرض كلها مسجداً، وجُعلتْ تُربتُها لنا طهوراً إذا لم نجدِ الماء" . وكان بدء التيمم ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلم قالت:

خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطعَ عقد لي فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الْتِمَاسِه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناسُ أبا بكر رضي الله عنه فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبالناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلّى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: أحبستِ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم والناسَ وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت: فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله تعالى آية التيمم { فَتَيَمَّمُواْ } فقال أُسيد بن حُضَيْر وهو أحد النقباء: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت عائشة رضي الله عنها: فبعثنا البعيرَ الذي كنت عليه فوجدنا العقدَ تحتَهُ.

وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبيد بن إسمعيل أنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه:

عن عائشة رضي الله عنها: أنها استعارتْ من أسماءَ قِلادةً فهلكت: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها فأدركتْهم الصلاةُ فصلوا بغير وضوء، فلمّا أتوا النبي صلّى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم. فقال أُسيد بن حضير: جزاك الله خيراً فوالله ما نزل بك أمر قط إلاّ جعل الله لك منه مخرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة.

{ فَتَيَمَّمُواْ }، أي: اقْصُدُوا، { صَعِيداً طَيِّباً }، أي: تراباً طاهراً نظيفاً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الصعيدُ هو التراب.

واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم، فذهب الشافعيرحمه الله تعالى إلى أنه يختص بما يقع عليه اسم التراب مما يعلق باليد منه غبار.

لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "وجُعلتْ تُربتُها لنا طهوراً"

وجوّز أصحاب الرأي التيمم بالزرنيخ والجص والنُوْرة وغيرها من طبقات الأرض، حتى قالوا: لو ضرب يديه على صخرة لا غبار عليها أو على التراب ثم نفخ فيه حتى زال التراب كله فمسح به وجهه ويديه صحّ تيممُه، وقالوا: الصعيد وجهُ الأرض.

لِما رُوي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"

وهذا مجمل، وحديث حذيفة في تخصيص التراب مفسَّر، والمفسَّر من الحديث يقضي على المُجمل. وجوّز بعضهم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ونبات، ونحوهما وقال: إن الصعيد اسم لِما تصاعد على وجه الأرض. والقصد إلى التراب شرطٌ لصحة التيمم، لأن الله تعالى قال: { فَتَيَمَّمُواْ }، والتيمم: القصد، حتى لو وقف في مهب الريح فأصابَ الغبارُ وجهَهُ ونَوى لم يصح. قوله تعالى: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } اعلم أن مسح الوجه واليدين واجب في التيمم.

واختلفوا في كيفيته: فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يمسح الوجه واليدين مع المرفقين، بضربتين، يضرب كفيه على التراب فيمسح جميع وجهه، ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور، ثم يضرب ضربةً أُخرى فيمسح يديه إلى المرفقين، لِما

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن أبي الحُويرث عن الأعرج عن أبي الصمة قال: "مررتُ على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يردَّ علي حتى قام إلى جدار فحته بعصاً كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم ردّ عليّ" .

ففيه دليلٌ على وجوب مسح اليدين إلى المرفقين كما يجب غسلهما في الوضوء إلى المرفقين، ودليلٌ على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق باليد غبار التراب، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم حتَّ الجدارَ بالعصا، ولو كان مجرد الضرب كافياً لما كان حتَّه. وذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين، لِما رُوي عن عمار أنه قال: تَيمّمْنا إلى المناكب. وذلك حكاية فعله لم ينقله عن النبي صلّى الله عليه وسلم.

كما رُوي أنه قال: أجنبتُ فتمعكتُ في التراب، فلمّا سأل النبيَّ صلّى الله عليه وسلم أمره بالوجه والكفين.

وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو قول علي وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال الشعبي وعطاء بن أبي رباح ومكحول، وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا بما

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا آدم أنا شعبة أخبرنا الحكم عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني أجنبتُ فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنّا كنّا في سفر أنَا وأنتَ، فأمّا أنتَ فلم تصلِّ، وأمّا أنا فتمعكتُ فصليتُ فذكرتُ ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنّما يكفيك هكذا، فضرب النبي صلّى الله عليه وسلم بكفيه الأرضَ ونفخَ فيهما، ثم مسح بهما وجهَهُ وكفيه" .

وقال محمد بن إسماعيل أنا محمد بن كثير عن شعبة بإسناده فقال عمار لعمر رضي الله عنه: تمعكتُ فأتيتُ النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: "يكفيك الوجه والكفان"

وفي الحديث دليل على أن الجنب إذا لم يجد الماء يصلي بالتيمم، وكذا الحائض والنفساء إذا طَهُرتَا وعُدَمتا الماء. وذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى أن الجنب لا يصلي بالتيمم بل يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء فيغتسل، وحملا قوله تعالى: { أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } على اللمس باليد دون الجماع، وحديث عمار رضي الله عنه حجة، وكان عمر نسي ما ذَكَرَ له عمارٌ فلم يقنع بقوله. ورُوي أن ابن مسعود رضي الله عنه رجع عن قوله وجوّز التيمم للجنب، والدليل عليه أيضاً: ما

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن عباد بن منصور عن أبي رجاء العطاردي عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر رجلاً كان جنباً أن يتيمم ثم يصلي فإذا وجدَ الماءَ اغتسلَ.

وأخبرنا عمر بن عبد العزيز أنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي أنا أبو علي اللؤلؤي أنا أبو داود السجستاني أنا مسدد أنا خالد الواسطي عن خالد الحذَّاء عن أبي عمرو بن بجدان عن أبي ذر رضي الله عنهم قال: "اجتمعت غنيمةٌ من الصدقة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر ابْدُ فيها، فبدوت إلى الربذة وكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست، فأتيت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم فقال: الصعيدُ الطيبُ وضوءُ المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماءَ فأمسّه جلدك فإنّ ذَلك خير" .

ومسح الوجه واليدينِ في التيمم، تارة يكون بدلاً من غسل جميع البدن في حق الجنب والحائض والنفساء والميت، وتارة يكون بدلاً عن غسل الأعضاء الأربع في حق المحدث، وتارة يكون بدلاً عن غسل بعض أعضاء الطهارة، بأن يكون على بعض أعضاء طهارته جراحةٌ لا يمكنه غسل محلها، فعليه أن يتيمم بدلاً عن غسله. ولا يصح التيمم لصلاة الوقت إلا بعد دخول الوقت، ولا يجوز أن يجمع بين فريضتين بتيمم واحدٍ، لأن الله تعالى قال: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلوٰةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } إلى أن قال: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً }، ظاهر الآية يدل على وجوب الوضوء أو التيمم إذا لم يجد الماء عند كل صلاة، إلا أن الدليل قدْ قامَ في الوضوءِ

فإن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوءٍ واحد.

فبقي التيمم على ظاهره، وهذا قول علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وذهب جماعة إلى أن التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة، ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يُحدث، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي. واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل، قبل الفريضة وبعدها، وأن يقرأ القرآن إن كان جنباً، وإن كان تيممه بعذر السفر وعدم الماء فيشترط طلب الماء، وهو أن يطلبه من رحله ورفقائه. وإن كان في صحراء لا حائل دون نظره ينظر حَوَالَيْه، وإن كان دون نظره حائل قريب من تلٍّ أو جدار عدل عنه، لأن الله تعالى قال: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ }، ولا يُقال: لم يجد الماء: إلاّ لمن طلب. وعند أبي حنيفة رضي الله عنه: طلب الماء ليس بشرط، فإن رأي الماءَ ولكن بينه وبين الماء حائل من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه، أو كان الماء في البئر وليس معه آلة الاستقاء، فهو كالمعدوم، يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه.