{ وَمَا يُلَقَّاهَآ }، ما يلقى هذه الخصلة وهي دفع السيئة بالحسنة، { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ }، على كظم الغيظ واحتمال المكروه، { وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ }، في الخير والثواب، وقال قتادة: "الحظ العظيم": الجنة، أي: ما يلقاها إلاَّ من وجبت له الجنة.
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ }، لاستعاذتك وأقوالك { ٱلْعَلِيمُ }، بأفعالك وأحوالك.
قوله عز وجل: { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ ٱلَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ للهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ }، إنما قال "خلقهن" بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير، ولم يجرها على طريق التغليب للمذكر على المؤنث، { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }.
{ فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ }، عن السجود، { فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ }، يعني الملائكة { يُسَبِّحُونَ لَهُ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْـئَمُونَ }، لا يملون ولا يَفْتُرون.
{ وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ }، دلائل قدرته، { أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَـٰشِعَةً }، يابسة غبراء لا نبات فيها، { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِىۤ أَحْيَـٰهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ }.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىۤ ءَايَـٰتِنَا }، يميلون عن الحق في أدلتنا، قال مجاهد: يلحدون في آياتنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط. قال قتادة: يكذبون في آياتنا. قال السدي: يعاندون ويشاقون. قال مقاتل. نزلت في أبي جهل.
{ لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِى ٱلنَّارِ }، وهو أبو جهل، { خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِىۤ ءَامِناً يومَ ٱلْقِيَـٰمَةِ }، قيل: هو حمزة، وقيل: عثمان. وقيل: عمار بن ياسر. { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ }، أمر تهديد ووعيد، { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }، عالم فيجازيكم به. { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ }، بالقرآن، { لَمَّا جَآءَهُمْ }، ثم أخذ في وصف الذكر وترك جواب: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، على تقدير: الذين كفروا بالذكر يجازون بكفرهم. وقيل: خبره قوله من بعد:{ أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }. { وَإِنَّهُ لَكِتَـٰبٌ عَزِيزٌ }، قال الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: كريم على الله: قال قتادة: أعزه الله عزّ وجلّ فلا يجد الباطل إليه سبيلاً.
وهو قوله: { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَـٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ }، قال قتادة والسدي: الباطل: هو الشيطان، لا يستطيع أن يغيره أو يزيد فيه أو ينقص منه.
قال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه، فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، وعلى هذا معنى "الباطل": الزيادة والنقصان.
وقال مقاتل: لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يجيء من بعده كتاب فيبطله، { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }، ثم عزّى نبيه صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم.
فقال: { مَّا يُقَالُ لَكَ }، من الأذى، { إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ }، يقول: إنه قد قيل للأنبياء والرسل قبلك: ساحر، كما يقال لك وكُذِّبوا كما كُذِّبْتَ، { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ }، لمن تاب وآمن بك { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ }، لمن أصر على التكذيب.
{ وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ }، أي: جعلنا هذا الكتاب الذي تقرؤه على الناس، { قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً }، بغير لغة العرب، { لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ }، هلاّ بينت آياته بالعربية حتى نفهمها، { ءَأَعْجَمِيٌ وَعَرَبِيٌ }، يعني: أكتاب أعجمي ورسول عربي؟ وهذا استفهام على وجه الإنكار، أي: أنهم كانوا يقولون: المنزَّل عليه عربي والمنزَل أعجمي.
قال مقاتل: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسارٍ، غلام عامر بن الحضرمي، وكان يهودياً أعجمياً، يكنى أبا فكيهة، فقال المشركون: إنما يعلمه يسار فضربه سيده، وقال: إنك تعلم محمداً، فقال يسار: هو يعلمني، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
{ قُلْ }، يا محمد، { هُوَ }، يعني القرآن، { لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ }، هدى من الضلالة وشفاء لما في القلوب، وقيل: شفاء من الأوجاع.
{ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِىۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى }، قال قتادة: عَمُوا عن القرآن وصمُّوا عنه فلا ينتفعون به، { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }، أي: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم، وهذا مَثَلٌ لقلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون.
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ }، فمصدق ومكذب كما اختلف قومك في كتابك، { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ }، في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن { لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ }، لفرغ من عذابهم وعُجِّل إهلاكهم، { وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ }، من صدقك، { مُرِيبٍ }، موقع لهم الريبة.
{ مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ }.
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }، أي: علمها إذا سئل عنها مردود إليه لا يعلمه غيره، { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَٰتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا }، قرأ أهل المدينة والشام وحفص: "ثمرات"، على الجمع، وقرأ الآخرون "ثمرة" على التوحيد، { مِّنْ أَكْمَامِهَا } أوعيتها واحدها: كِمٌّ. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الكُفَرَّى قبل أن تنشق. { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ }، [إلا بإذنه]، يقول: يرد إليه علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنتاج. { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ }، ينادي الله المشركين، { أَيْنَ شُركَآئِيَ }، الذين كنتم تزعمون أنها آلهة، { قَالُواْ }، يعني المشركين، { ءَاذَنَّاكَ }، أعلمناك، { مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ }، أي: من شاهد بأن لك شريكاً لَمَّا عاينوا العذاب تبرأوا من الأصنام.
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ }، يعبدون، { مِن قَبْلُ }، في الدنيا { وَظَنُّواْ }، أيقنوا، { مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ }، مهرب.
{ لاَّ يَسْـئَمُ ٱلإِنْسَـٰنُ }، لا يمل الكافر، { مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ }، أي: لا يزال يسأل ربَّه الخير، يعني المال والغنى والصحة، { وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ }، الشدة والفقر، { فيؤُوسٌ }، من روح الله، { قَنُوطٌ }، من رحمته.
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَـٰهُ رَحْمَةً مِّنَّا }، آتيناه خيراً وعافية وغنى، { مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ }، من بعد شدة وبلاء أصابته، { لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِى }، أي: بعملي وأنا محقوق بهذا، { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّىۤ إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ }، يقول هذا الكافر: لست على يقين من البعث، فإن كان الأمر على ذلك، وَرُدِدتُ إلى ربي إن لي عنده للحسنى، أي: الجنة، أي: كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة { فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ }، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لنقفنَّهم على مساوئ أعمالهم، { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ }.
{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَـٰنِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ }، كثير والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة، فيقال: أطال فلان الكلام والدعاء وأعرض، أي: أكثر. { قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ }، هذا القرآن { مِنْ عِندِ ٱللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ }، خلاف للحق بعيد عنه، أي: فلا أحد أضل منكم.
{ سَنُرِيهِمْ ءَايَـٰتِنَا فِى ٱلأَفَاقِِ }، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني منازل الأمم الخالية. { وَفِىۤ أَنفُسِهِمْ }، بالبلاء والأمراض.
وقال قتادة: في الآفاق يعني: وقائع الله في الأمم، وفي أنفسهم يوم بدر. وقال مجاهد، والحسن، والسدي: "في الآفاق": ما يفتح من القرى على محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين، "وفي أنفسهم": فتح مكة. { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ }، يعني: دين الإسلام. وقيل: القرآن يتبين لهم أنه من عند الله. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم، يتبين لهم أنه مؤيد من قبل الله تعالى.
وقال عطاء وابن زيد: "في الآفاق" يعني: أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار، "وفي أنفسهم" من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، حتى يتبين لهم أنه الحق.
{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ }، قال مقاتل: أوَ لَمْ يكفِ بربّك شاهداً أن القرآن من الله تعالى. قال الزجاج: معنى الكفاية ها هنا: أن الله عز وجل قد بين من الدلائل ما فيه كفاية، يعني: أو لم يكف بربك لأنه على كل شيء شهيد، شاهد لا يغيب عنه شيء.
{ أَلآ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ }، في شك من البعث، { أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ }، أحاط بكل شيء علماً.