خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣
-المائدة

معالم التنزيل

قوله عز وجل { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ }، أي: ما ذُكر على ذبحه غيرُ اسمِ الله تعالى، { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ }، وهي التي تخنتق فتموت، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتتْ أكلوها، { وَٱلْمَوْقُوذَةُ } هي المقتولة بالخشب، قال قتادة: كانوا يضربونها بالعصا فإذا ماتتْ أكلوها، { وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ }، هي التي تتردّى من مكان عالٍ أو في بئر فتموت، { وَٱلنَّطِيحَةُ }، هي التي تنطحها أخرى فتموت، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث، نحو عينٌ كحيلٌ وكفٌّ خَضِيبٌ، فإذا حذف الاسم وأفردت الصفةَ، أدخلوا الهاء فقالوا: رأينا كحيلة وخضيبة، وهنا أُدخل الهاء لأنه لم يتقدمها الاسم، فلو أسقط الهاء لم يُدْرَ أنها صفة مؤنث أو مذكر، ومثله الذبيحة والنسيكة، وأكيلة السبع { وَمَا أَكَلَ ٱلسَّبُعُ }، يريد ما بقي ممّا أكل السبع، وكان أهل الجاهلية يأكلونه، { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ }، يعني: إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء.

وأصل التذكية الإتمام، يقال: ذكّيتُ النارَ إذا أتممتُ إشعالها، والمراد هنا: إتمام فري الأوداج وإنهارُ الدم. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما أنْهَرَ الدّمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فكُلْ ليس غير السّن والظفر"

وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المري والحُلقوم وكما له أن يقطع الودجين معهما، ويجوز بكل مُحدّد يقطع من حديد أو قصب أو زجاج أو حجر إلا السن والظفر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما، وإنّما يحلّ ما ذكّيتَه بعدما جرحَه السبعُ أو أكل شيئاً منه إذا أدركتَه والحياةُ فيه مستقرةٌ فذبحته، فأمّا مَا صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح، فهو في حكم الميتة، فلا يكون حلالاً وإن ذبحته، وكذلك المتردّية والنّطيحة إذا أدركتَها حيّةً قبل أن تصير إلى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالاً، ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه فسقط على الأرض فمات كان حلالاً، لأن الوقوع على الأرض من ضرورته، فإن سقط على جبل أو شجر أو سطح ثم تردّى منه فمات فلا يحلّ، وهو من المتردية إلاّ أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء فيحلّ كيفَ مَا وقع، لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المَذْبَح.

{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ }، قيل: النُّصُب جمعٌ، واحده نصاب، وقيل: هو واحد وجمعه أنصاب مثل عنق وأعناق، وهو الشيء المنصوب.

واختلفوا فيه، فقال مجاهد وقتادة: كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجراً منصوبة، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويُعظِّمونها ويذبحون لها، وليست هي بأصنام، إنما الأصنام هي المُصَوَّرة المنقوشة، وقال الآخرون: هي الأصنام المنصوبة، ومعناه: ما ذُبح على اسم النُّصبِ، قال ابن زيد: وما ذُبح على النصب وما أُهلّ لغير الله به: هما واحد، قال قطرب: على بمعنى اللام أي: وما ذُبح لأجل النُّصب.

{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ }، أي: ويحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام، والأزلام هي: القِداح التي لا ريش لها ولا نَصْل، وَاحِدُها: زَلْم، وزُلْم، بفتح الزاي وضمّها وكانت أزلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط، يكون عند سَادِنِ الكعبة، مكتوبٌ على واحدٍ نعم، وعلى واحدٍ لا، وعلى واحدٍ منكم، وعلى واحدٍ من غيركم، وعلى واحدٍ مُلْصَق، وعلى واحدٍ: العقل، وواحدٍ غُفْل ليس عليه شيء، وكانوا إذا أرادوا أمراً من سفر أو نكاح أو ختان أو غيره، أو تدارؤوا في نسبٍ أو اختلفوا في تحمّل عقلٍ جاؤوا إلى هُبل وكان أعظم أصنام قريش بمكة، وجاؤوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح حتى يُجِيلَ القِدَاحَ، ويقولون: يا إلهنا أنّا أردنا كذا وكذا، فإن خرج نعم، فعلوا، وإن خرج لا، لم يفعلوا ذلك حولاً، ثمّ عادوا إلى القِدَاح ثانيةً، فإذا أجالوا على نسبٍ، فإن خرج منكم كان وسيطاً بينهم، وإن خرج من غيركم كان حليفاً، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ولا حلف، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله، وإن خرج الغفل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك وحرّمه، وقال: { ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ } قال سعيد بن جبير: الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها، وقال مجاهد: هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقال الشعبي وغيره: الأزلام للعرب، والكعاب للعجم، وقال سفيان بن وكيع: هي الشطرنج، وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العِيَافَةُ والطَرْقُ والطِّيَرَةُ منَ الجِبْتِ" ، والمراد من الطّرْقِ: الضِّرْبُ بالحصى.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنا ابن فنجويه أنا ابن الفضل الكندي أخبرنا الحسن بن داود الخشاب أنا سويد بن سعيد أنا [أبو المختار] عن عبدالملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تكهَّنَ أو اسْتَقْسَمَ أو تطيّر طيرةً تردّه عن سفره لم ينظرْ إلى الدرجات العُلى من الجنة يوم القيامة"

قوله عز وجل { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ }، يعني: أنْ ترجِعُوا إلى دينهم كفاراً، وذلك أن الكفار كانوا يطْمَعُون في عَوْدِ المسلمين إلى دينهم فلما قويَ الإسلام يئسوا، ويئس وأيس بمعنى واحد.

{ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلاَمَ دِيناً }، نزلت هذه الآية يوم الجمعة، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت.

أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبدالله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثني الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون أنا أبو العُمَيس أنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلتْ لاتّخذنَا ذلك اليوم عيداً، قال: أيَّةُ آيةٍ؟ قال: "اليومَ أكملتُ لكم دينَكُم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإِسلام ديناً"، فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة، أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيداً لنا.

قال ابن عباس: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد: جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.

وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: " لما نزلتْ هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يُبكيك يا عمر؟قال: أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا، فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، قال:صدقت"

وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها إحدى وثمانين يوماً، ومات يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول [سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل: تُوفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول] وكانت هجرته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول.

قوله عزّ وجلّ: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }، يعني: يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم، يعني الفرائض والسُّنن والحُدود والجهاد والأحكام والحلال والحرام، فلم ينزل بعد هذه الآية حلالٌ ولا حرام، ولا شيء من الفرائض. هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما، ورُوي عنه أن آية الرِّبا نزلت بعدها.

وقال سعد بن جبير وقتادة: أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك.

وقيل: أظهرت دينكم وأمّنْتُكُم من العدو.

قوله عزّ وجلّ: { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى }، يعني: أنجزت وعدي في قوله: { { وَلأُِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ } [البقرة: 150]، فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين، وحجّوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين، { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلاَمَ دِيناً }، سمعت عبدالواحد المليحي قال: سمعت أبا محمد بن حاتم، قال: سمعت أبا بكر النيسابوري سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي، سمعت عبدالملك بن مسلمة أبا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه، سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبدالله يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال جبريل عليه السلام قال الله تعالى: هذا دين ارتضيتُه لنفسي ولن يُصلِحَه إلا السخاءُ وحُسْنُ الخُلق، فأكرمُوه بهما ما صحبتُمُوه"

قوله عزّ وجلّ: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ }، أي: أُجهد في مجاعة، والمخمصة خلو البطن من الغذاء، يقال: رجل خميص البطن إذا كان طاوياً خاوياً، { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ }، أي: مائل إلى إثم وهو أن يأكل فوق الشبع، وقال قتادة: غير متعرض لمعصية في مقصده، { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وفيه إضمار، أي: فأكله فإنّ الله غفور رحيم.

أخبرنا أبو عبدالله محمد بن الحسن المروزي أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أنا أبو الحسن علي بن عبدالعزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام أنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي " "قال رجل: يا رسول الله إنّا نكون بالأرض فتصيبُنا بها المخمصة فمتى تَحِلّ لنا الميتة؟ فقال: ما لم تصطحبوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها"