قوله عزّ وجلّ: { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ }، فيه إضمار أي: قلْ لهم يا محمد أفغيرَ الله، { أَبْتَغِى }، أطلب { حَكَماً }، قاضياً بيني وبينكم، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حَكَماً فأجابهم به، { وَهُوَ ٱلَّذِىۤ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّلاً }، مبيّناً فيه أمره ونهيه، يعني: القرآن، وقيل: مفصلاً أي خمساً خمساً وعشراً عشراً؛ كما قال:
{ { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [الفرقان: 32]، { وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ }، يعني: علماء اليهود والنصارى الذين آتيناهم التوراة والإنجيل، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب، وقال عطاء: هم رؤوس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالكتاب هو القرآن، { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزَّلٌ }، يعني: القرآن، قرأ ابن عامر [وحفص]: { منزل }، بالتشديد من التنزيل لأنه أنزل نجوماً متفرقة، وقرأ الآخرون بالتخفيف من الإنزال؛ لقوله تعالىٰ: "وهو الذي أنزل إليكم الكتاب"، { مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ }، من الشاكّين أنهم يعلمون ذلك.
قوله عزّ وجلّ: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ }، قرأ أهل الكوفة ويعقوب { كلمة } على التوحيد، وقرأ الآخرون (كلمات) بالجمع، وأراد بالكلمات أمره ونهيه ووعده ووعيده، { صِدْقاً وَعَدْلاً }، أي: صدقاً في الوعد والوعيد، وعدلاً في الأمر والنهي، قال قتادة ومقاتل: صدقاً فيما وعد وعدلاً فيما حكم. { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَـٰتِهِ }، قال ابن عباس: لا رادّ لقضائه ولا مغيّر لحكمه ولا خُلْف لوعده، { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }، قيل: المراد بالكلمات القرآن لا مبدّل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون.
{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }، عن دين الله، وذلك أن أكثر أهل الأرض كانوا على الضلالة، وقيل: أراد أنهم جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة، وقالوا: أتأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ما قتله الله عزّ وجلّ؟ فقال: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلأَرْضِ } أي: وإن تطعهم في أكل الميتة يُضلّوكَ عن سبيل الله، { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ }، يريد أن دينهم الذي هم عليه ظنٌّ [وهوىً] لم يأخذوه عن بصيرة، { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }، يكذّبُون.
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ }، قيل: موضع "من" نصب بنزع حرف الصفة، أي: بمن يضل، وقال الزجاج: موضعه رفع بالابتداء، ولفظها لفظ الاستفهام، المعنى: إنّ ربك هو أعلم أيُّ الناس من يضل عن سبيله، { وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ }، أخبر أنه أعلم بالفريقين الضالين والمعتدين فيجازي كلاً بما يستحقه.