خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١٠٧
-التوبة

معالم التنزيل

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ }، قرأ: أهل المدينة والشام «الذين» بلا واو، وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ الآخرون «والذين» بالواو. { مَسْجِداً ضِرَاراً }، نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين، بنو مسجداً يضارّون به مسجدَ قباء، وكانوا اثني عشر رجلاً من أهل النفاق: وديعة بن ثابت، وجِذام بن خالد، ومن داره أُخْرِجَ هذا المسجد، وثعلبة بن حاطب، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وأبو حبيبة بن الأزعر، ونبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، ورجل يقال له: بَحْزَج، بنوا هذا المسجد ضراراً، يعني: مضارةً للمؤمنين، { وَكُفْراً }، بالله ورسوله، { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }؛ لأنهم كانوا جميعاً يصلُّون في مسجد قباء، فبنوا مسجد الضِّرار، ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الإِختلاف وافتراق الكلمة، وكان يصلي بهم مجمع بن جارية. فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة، والليلة المَطِيْرة والليلة الشاتية، إنا نحب أن تأتيا وتصلي بنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني على جناح سفرٍ، ولو قَدِمْنَا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه».

{ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ }، أي: انتظاراً وإعداداً لمن حارب الله ورسوله. يقال: أرصد له: إذا أعددت له. وهو أبو عامر الراهب وكان أبو عامر هذا رجلاً منهم، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد ترهًّب في الجاهلية تنصَّر ولبس المُسُوح، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الذي جئتَ به؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال أبو عامر: فإنّا عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لستَ عليها، قال: بلى، ولكنّك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعلتُ ولكني جئتُ بها بيضاءَ ناقية، فقال أبو عامر: أمات الله الكاذبَ منّا طريداً وحيداً غريباً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمين" وسماه أبا عامر الفاسق.

فلما كان يوم أُحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوماً يقاتلونك إلاّ قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حُنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هارباً إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أنِ استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، وابْنُوا لي مسجداً فأنا ذاهبٌ إلى قيصر ملك الروم فآتِ بجندٍ من الروم، فأخْرِج محمداً وأصحابه، فبنوا مسجدَ الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله تعالى: { وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }، وهو أبو عامر الفاسق، ليصلي فيه إذا رجع من الشام.

قوله: { مِن قَبْلُ } يرجع إلى أبي عامر يعني حارب الله ورسوله من قبل أي: من قبل بناء مسجد الضرار.

{ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا }، ما أردنا ببنائه، { إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ }، إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ }، في قولهم وحلفهم. رُوي أنه "لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوَان موضع قريب من المدينة أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبر مسجد الضرار وما همّوا به، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم، ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشياً قاتل حمزة، وقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهلُه، فاهدمُوه واحرقوه، فخرجوا سريعاً حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدُّخْشُم، فقال مالك: أَنْظِرُونِي حتى أخرج إليكم بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سَعَفاً من النخل وأشعل فيه ناراً، ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه وتفرّق عنه أهله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتّخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والنتن والقمامة. ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيداً فريداً غريباً" .

ورُوي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع ابن حارثة فيؤمهم في مسجدهم، فقال: لا، ولا نعمت عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين: لا تعجل عليّ، فواللّهِ لقد صليت فيه وأني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمتُ ما صليتُ معهم فيه، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شيوخاً لا يقرؤون القرآنَ فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى، ولم أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء. وقال عطاء: لما فتح الله على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وأمرهم أنْ لا يبنوا في مدينتهم مسجدين يضار أحدُهما صاحبَه.