خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٠
-التوبة

معالم التنزيل

قوله تعالى: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ }، هذا إعلام من الله عز وجلّ أنه المتكفّلُ بنصرِ رسوله وإعزاز دينه، أعانوه أو لم يعينوه وأنه قد نصره عند قلة الأولياء، وكثرة الأعداء، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَد، { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، من مكة حين مكروا به وأرادوا تبيينه وهمُّوا بقتله، { ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ } أي: هو أحد الاثنين، والاثنان: أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، { إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ }، وهو نقب في جبل ثور بمكة، { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا }، قال الشعبي: عاتب الله عزّ وجلّ أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي، أنبأنا محمد عبد الرحمن بن عثمان، أنبأنا خيثمة بن سليمان، حدثنا عبدالله بن أحمد الدَّورقي، حدثنا سعيد بن سليمان، عن علي بن هاشم عن كثير النَّوَّاء عن جُمَيْع بن عُمَيْر قال: أتيت ابن عمر رضي الله عنه فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: "أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض" .

قال الحسين بن الفضل: من قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإِنكاره نصَّ القرآن. وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً،لا يكون كافراً.

وقوله عزّ وجلّ: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } لم يكن حزن أبي بكر جُبْناً منه، وإنّما كان إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمّة.

ورُوي "أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا بكر؟ قال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى أستبرىء الغار، فدخل فاستبرأه ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر" .

أخبرنا أبو المظفر التميمي، أخبرنا محمد عبدالرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي النظر، أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أبو قلابة الرقاشي، حدثنا حيان بن هلال، حدثنا همام بن يحي، حدثنا ثابت البناني، حدثنا أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدّثهم، قال: "نظرتُ إلى أقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أنّ أحدهم نظرَ تحتَ قدميه أبصرَنا، فقال: يا أبا بكر ما ظنّك باثنين اللَّهُ ثالثُهما" .

أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي، حدثنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير "أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبويَّ قط إلاّ وهما يدينان الدين، ولم يمرّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرةً وعشياً، فلما ابتلي المسلمون.. قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني أُريت دار هجرتكم، ذات نخل، بين لابتين وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبَلَ المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قِبَلَ المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رِسْلِكَ فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين ـ كانتا عنده ـ ورق السَّمُر، وهو الخبْط، أربعة أشهر" .

قال ابن شهاب. قال عروة: "قالت عائشة رضي الله عنها: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نَحْرِ الظَّهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَقَنِّعاً في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداءً له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أَمْرٌ، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أَخْرِجْ مَنْ عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أُذِن لي في الخروج فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله صلى الله بالثَّمَنِ قالت عائشة رضي الله عنها: فجهزناهما أَحَثَّ الجهاز، وصنعنا لهما سُفْرَةً في جِرَابٍ، فقطعت أساء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سُميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة، فلا يسمع أمراً يُكَادَانِ به إلاّ وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة، مولى أبي بكر، مِنْحَةً من غنمٍ، فيُرِيْحُها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْلِ، وهو لبن منحتهما ورَضِيْفُهُما حتى يَنْعِقَ بهما عامر بن فهيرة بغَلَسٍ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الدِّيْل، وهو من بني عبد بن عدي هادياً خِرِّيتَاً، والخِرِّيتُ: الماهر بالهداية، قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السَّهْمِيّ، وهو على دين كفار قريش، فَمِنَاهُ، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل" .

قال ابن شهاب: وأخبرني عبدالرحمن ابن مالك المُدْلِجِيّ، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعْشُمٍ: أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفاً أَسْوِدَةً بالساحل أُرَاهَا محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطَلَقُوا بأعيننا، ثم لبثتُ في المجلس ساعةً، ثم قمتُ فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة، فتحبسها عليّ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزُجِّه الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستسقمت بها أَضُرُّهُم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقْربُ بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت وأبو بكر رضي الله عنه يُكْثِرُ الالتفات، فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تُخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثريديها يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم خبرَ ما يُريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني شيئاً إلا أن قال: أَخْفِ عنّا، فسألته أن يكتب لي كتابَ أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرّة فينظرونه حتى يردّهم حرّ الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أَوَوْا إلى بيوتهم أوفى رجلٌ من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يامعشر العرب هذا جَدُّكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيّ أبا بكر حتى أصابت الشمسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسّسَ المسجد الذي أُسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربداً للتمر، لسهيل وسهلٍ، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فَسَوَمَهُمَا بالمربَدِ ليتّخذه مسجداً فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجداً، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللّبِنَ في بنيانه ويقول وهو ينقل اللَّبن:

_@_هذا الحمال لا حمال خيبر_@_هذا أبرُّ ربّنا وأطهر _@_

ويقول:

_@_اللّهمّ إن الأجر أجر الآخرة _@_ فارحمِ الأنصار والمهاجرة_@_" فتمثل ببيت رجل من المسلمين لم يسمَّ لي.

قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.

قال الزهري: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجاً من حمام حتى باضا في أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسجت بيتاً، وفي القصة أنبت يمامة على فم الغار، وقال النبي: اللّهمّ أعمِ أبصارهم عنّا فجعل الطلب يضربون يميناً وشمالاً حول الغار يقولون: لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت" .

قوله عزّ وجلّ: { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ }، قيل: على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: على أبي بكر رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل، { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا }، وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته. وقيل: ألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا. وقال مجاهد والكلبي: أعانة بالملائكة يوم بدر، أخبر أنه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر.

{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ }، وكلمتهم الشرك، وهي السفلى إلى يوم القيامة، { وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا }، إلى يوم القيامة. ثم قال ابن عباس: هي قول لا إله إلا الله. وقيل كلمة الذين كفروا: ما قدّروا بينهم في أنفسهم من الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله: وَعْدُ الله أنه ناصره. وقرأ يعقوب: { وَكَلِمَةَ ٱللَّهِ }، بنصب التاء على العطف { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.