المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المعنى: قال يوسف ليعقوب: هذا السجود الذي كان منكم، هو ما آلت إليه رؤياي قديماً في الأحد
عشر كوكباً وفي الشمس والقمر.
وقوله: { قد جعلها ربي حقاً } ابتداء تعديد نعم الله تعالى عليه، وقوله: { وقد أحسن بي }، أي أوقع
وناط إحسانه بي. فهذا منحى في وصول الإحسان بالباء، وقد يقال: أحسن إليَّ، وأحسن فيّ، ومنه قول
عبد الله بن أبي ابن سلول: يا محمد أحسن في مواليّ؛ وهذه المناحي مختلفة المعنى، وأليقها بيوسف قوله:
{ بي } لأنه إحسان درج فيه دون أن يقصد هو الغاية التي صار إليها.
وذكر يوسف عليه السلام إخراجه من السجن، وترك إخراجه من الجب لوجهين.
أحدهما: أن في ذكر إخراجه من الجب تجديد فعل إخوته وخزيهم بذلك وتقليع نفوسهم وتحريك
تلك الغوائل وتخبيث النفوس.
والوجه الآخر: أنه خرج من الجب إلى الرق، ومن السجن إلى الملك فالنعمة هنا أوضح.
وقوله: { وجاء بكم من البدو } يعم جمع الشمل والتنقل من الشقاوة إلى النعمة بسكنى الحاضرة،
وكان منزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام في بادية فلسطين وكان رب إبل وغنم وبادية.
و { نزغ } معناه: فعل فعلاً أفسد به، ومنه قول النبي عليه السلام: "لا يشر أحدكم على أخيه
بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده" .
وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبين حسن موقع النعم، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة
وبلاء فهي أحسن موقعاً.
وقوله: { لما يشاء } أي من الأمور أن يفعله، واختلف الناس في كم كان بين رؤيا يوسف وبين
ظهورها: فقالت فرقة أربعون سنة - هذا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد، وقال عبد الله بن شداد:
ذلك آخر ما تبطىء الرؤيا - وقالت فرقة - منهم الحسن وجسر بن فرقد وفضيل بن عياض - ثمانون سنة.
وقال ابن إسحاق: ثمانية عشر، وقيل: اثنان وعشرون قاله النقاش - وقيل: ثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون
- قاله قتادة - وقال السدي وابن جبير: ستة وثلاثون سنة. وقيل: إن يوسف عليه السلام عمر مائة وعشرين
سنة. وقيل: إن يعقوب بقي عند يوسف نيفاً على عشرين سنة ثم توفي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: ولا وجه في ترك تعريف يوسف أباه بحاله منذ خرج من السجن إلى العز إلا
الوحي من الله تعالى لما أراد أن يمتحن به يعقوب وبنيه، وأراد من صورة جمعهم - لا إله إلا هو - وقال
النقاش: كان ذلك الوحي في الجب، وهو قوله تعالى: { { وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } }
[يوسف: 15] وهذا محتمل.
ومما روي في أخبار يعقوب عليه السلام: قال الحسن: إنه لما ورده البشير لم يجد عنده شيئاً يثيبه به
فقال له: والله ما أصبت عندنا شيئاً، وما خبزنا منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت. ومن
أخباره: أنه لما اشتد بلاؤه وقال: يا رب أعميت بصري وغيبت عني يوسف، أفما ترحمني؟ فأوحى الله
إليه: سوف أرحمك وأرد عليك ولدك وبصرك، وما عاقبتك بذلك إلا أنك طبخت في منزلك حملاً فشمه
جار لك ولم تساهمه بشيء، فكان يعقوب بعد يدعوه إلى غدائه وعشائه. وحكى الطبري: أنه لما اجتمع
شمله كلفه بنوه أن يدعو الله لهم حتى يأتي الوحي بأن الله قد غفر لهم. قال: فكان يعقوب يصلي ويوسف
وراءه وهم وراء يوسف، ويدعو لهم فلبث كذلك عشرين سنة ثم جاءه الوحي: إني قد غفرت لهم
وأعطيتهم مواثيق النبوة بعدك. ومن أخباره: أنه لما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يدفنه بالشام، فلما
مات نفخ فيه المر وحمله إلى الشام، ثم مات يوسف فدفن بمصر، فلما خرج موسى - بعد ذلك - من أرض
مصر احتمل عظام يوسف حتى دفنها بالشام مع آبائه.