خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ
٨
عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ
٩
سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ
١٠
-الرعد

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

لما تقدم تعجب الكفار واستبعادهم البعث من القبور - قص في هذه الآيات المثل المنبهة على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث:
فمن ذلك هذه الواحدة من الخمس التي هي من مفاتيح الغيب، وهي أن الله تعالى انفرد بمعرفة ما تحمل به الإناث، من الأجنة من كل نوع من الحيوان؛ وهذه البدأة تبين أنه لا تتعذر على القادر عليها الإعادة.
و { ما } في قوله: { ما تحمل } يصح أن تكون بمعنى الذي، مفعولة { يعلم } ويصح أن تكون مصدرية، مفعولة أيضاً بـ { يعلم } ، ويصح أن تكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء، والخبر: { تحمل } وفي هذا الوجه ضعف.
وفي مصحف أبي بن كعب: "ما تحمل كل أنثى وما تضع".
وقوله: { وما تغيض الأرحام } معناه: ما تنقص، وذلك أنه من معنى قوله:
{ { وغيض الماء } } [هود: 44] وهو بمعنى النضوب فهي - هاهنا - بمعنى زوال شيء عن الرحم وذهابه، فلما قابله قوله: { وما تزداد } فسر بمعنى النقصان: ثم اختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان: فقال مجاهد "غيض الرحم" أن يهرق دماً على الحمل، وإذا كان ذلك ضعف الولد في البطن وشحب، فإذا أكملت الحامل تسعة أشهر لم تضع وبقي الولد في بطنها زيادة من الزمن يكمل فيها من جسمه وصحته ما نقص بمهراقة الدم، فهذا هو معنى قوله: { وما تغيض الأرحام وما تزداد } وجمهور المتأولين على أن غيض الرحم الدم على الحمل.
وذهب بعض الناس إلى أن غيضه هو نضوب الدم فيه وامتساكه بعد عادة إرساله بالحيض، فيكون قوله: { وما تزداد } - بعد ذلك - جارياً مجرى { تغيض } على غير مقابلة، بل غيض الرحم هو بمعنى الزيادة فيه.
وقال الضحاك: غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة تاماً في خلقه.
وقال قتادة: الغيض: السقط، والزيادة: البقاء بعد تسعة أشهر.
وقوله: { وكل شيء عنده بمقدار } لفظ عام في كل ما يدخله التقدير، و { الغيب } : ما غاب عن الإدراكات، و { الشهادة }: ما شوهد من الأمور، ووضع المصادر موضع الأشياء التي كل واحد منها لا بد أن يتصف بإحدى الحالتين.
وقوله: { الكبير } صفة تعظيم على الإطلاق، و "المتعالي" من العلو.
واختلفت القراءة في الوقف على "المتعال": فأثبت ابن كثير وأبو عمرو - في بعض ما روي عنه - الياء في الوصل والوقف، ولم يثبتها الباقون في وصل ولا وقف. وإثباتها هو الوجه والباب. واستسهل سيبويه حذفها في الفواصل - كهذه الآية - قياساً على القوافي في الشعر، ويقبح حذفها في غير فاصلة ولا شعر، ولكن وجهه أنه لما كان التنوين يعاقب الألف واللام أبداً، وكانت هذه الياء تحذف مع التنوين، حسن أن تحذف مع معاقبه.
قال القاضي أبو محمد: ويتصل بهذه الآية فقه يحسن ذكره. فمن ذلك اختلاف الفقهاء في الدم الذي تراه الحامل، فذهب مالكرحمه الله وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وجماعة، إلى أنه حيض. وقالت فرقة عظيمة: ليس حيض، ولو كان حيضاً لما صح استبراء الأمة بحيض وهو إجماع. وروي عن مالك - في كتاب محمد - ما يقتضي أنه ليس بحيض، ومن ذلك أن الأمة مجمعة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وذلك منتزع من قوله تعالى:
{ { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } [الأحقاف: 15] مع قوله تعالى: { { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [البقرة: 233].
وهذه الستة أشهر هي بالأهلة - كسائر أشهر الشريعة - ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك - وأظنه في كتاب ابن حارث - أنه إن نقص من الأشهر الستة ثلاثة أيام، فإن الولد يلحق لعلة نقص الشهور وزيادتها واختلف في أكثر الحمل فقيل تسعة أشهر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
وقالت عائشة وجماعة من العلماء أكثره حولان، وقالت فرقة: ثلاثة أعوام وفي المدونة: أربعة أعوام وخمسة أعوام. وقال ابن شهاب وغيره: سبعة أعوام، ويروى أن ابن عجلان ولدت امرأته لسبعة أعوام، وروي أن الضحاك بن مزاحم بقي حولين - قال: وولدت وقد نبتت ثناياي، وروي أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر.
وقوله تعالى: { سواء منكم } الآية: { سواء } مصدر وهو يطلب بعده شيئين يتماثلان. ورفعه على خبر الابتداء الذي هو "من" والمصدر لا يكون خبراً إلا بإضمار كما قالت الخنساء: [البسيط]:

.................. فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وإدبار. فقالت فرقة هنا: المعنى: ذو سواء، وقال الزجاج كثر استعمال سواء في كلام العرب حتى جرى مجرى اسم الفاعل فلا يحتاج إلى إضمار.
قال القاضي أبو محمد: هو عندي كعدل وزور وضيف.
وقالت فرقة: المعنى: مستوٍ منكم، فلا يحتاج إلى إضمار.
قال القاضي أبو محمد: وضعف هذا سيبويه بأنه ابتداء بنكرة.
ومعنى هذه الآية: معتدل منكم في إحاطة الله تعالى وعلمه من أسر قوله فهمس به في نفسه، { ومن جهر به } فأسمع، لا يخفى على الله تعالى شيء.
وقوله تعالى: { ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } معناه: من هو بالليل في غاية الاختفاء، ومن هو متصرف بالنهار ذاهب لوجهه، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما. وذهب ابن عباس ومجاهد إلى معنى مقتضاه: أن "المستخفي والسارب" هو رجل واحد مريب بالليل، ويظهر بالنهار البراءة في التصرف مع الناس.
قال القاضي أبو محمد: فهذا قسم واحد جعل الليل نهار راحته، والمعنى: هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب سواء في اطلاع الله تعالى على الكل، ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار { من } ولا يأتي حذفها إلا في الشعر و "السارب" - في اللغة - المتصرف كيف شاء، ومن ذلك قول الشاعر: [الأخنس بن شهاب الثعلبي] [الطويل]

أرى كل قوم كاربوا قيد محلهم ونحن حللنا قيده فهو سارب

أي متصرف غير مدفوع عن جهة، هذا رجل يفتخر بعزة قومه، ومن ذلك قول الآخر: [قيس بن الخطيم] [الكامل]

إني سربت وكنت غير سروب وتقرب الأحلام غير قريب

وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف: فالذي يسر طرف، والذي يجهر طرف مضاد للأول، والثالث: متوسط متلون: يعصي بالليل مستخفياً، ويظهر البراءة بالنهار. و { القول } في الآية يطرد معناه في الأعمال.
وقال قطرب - فيما حكى الزجاج - { مستخف } معناه: الظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته.
قال القاضي أبو محمد: قال امرؤ القيس: [الطويل]

خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلّب

قال: و { سارب } معناه: متوار في سرب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول - وإن كان تعلقه باللغة بيناً- فضعيف، لأن اقتران الليل بـ "المستخفي"، والنهار بـ "السارب" - يرد على هذا القول.