خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ
١
-الإسراء

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده، وهو محمد عليه السلام، ويظهر أن { أسرى } هي هنا معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره، أسرى الملائكة بعبده، وكذلك يقلق أن يسند { أسرى } وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى، إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة، فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث "أتيته سعياً، وأتيته هرولة" حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث، و { أسرى } في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا تحتاج إلى تجوز قلق في مثل هذا اللفظ، فإنه ألزم للنقلة من أتيته و { { أتى الله بنيانهم } [النحل: 26] ويحتمل أن يكون { أسرى } بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى { { ذهب الله بنورهم } [البقرة: 17] ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النقاش عمن رواه عشرين صحابياً، فروى جمهور الصحابة وتلقى جل العلماء منهم أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه، وروى حذيفة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن البراق في بيت المقدس ولا دخله، قال حذيفة ولو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه، وأنه ركب البراق بمكة ولم ينزل عنه حتى انصرف إلى بيته، إلا في صعوده إلى السماء، وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارق شخصه مضجعه وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق من ربه عز وجل، وجوزه الحسن وابن إسحاق، والحديث، قال القاضي أبو محمد، مطول في البخاري ومسلم وغيرهما، فلذلك اختصرنا نصه في هذا الباب، وركوب البراق على قول هؤلاء يكون من جملة ما رأى في النوم، قال ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن في كتاب الطبري: البراق هو دابة إبراهيم الذي كان يزور عليه البيت الحرام.
قال القاضي أبو محمد: يريد أن يجيء من يومه ويرجع وذلك من مسكنه بالشام، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق، ولا قالت له أم هاني: لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل، واحتج لقول عائشة بقوله تعالى:
{ { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } [الإسراء: 60]، ويحتمل القول الآخر لأنه يقال لرؤية العين رؤيا، واحتج أيضاً بأن في بعض الأحاديث: فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وهذا محتمل أن يريد من الإسراء إلى نوم، واعترض قول عائشة بأنها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدثت عن النبي عليه السلام، وأما معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال صغيراً، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: { سبحان } مصدر غير متمكن لأنه لا يجري بوجوه الإعراب ولا تدخل عليه الألف واللام ولم يجر منه فعل، وسبح إنما معناه قال سبحان الله فلم يستعمل سبح إلا إشارة إلى { سبحان }، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً، هذا كله مذهب سيبويه فيه، وقالت فرقة: قال القاضي أبو محمد: نصبه على النداء كأنه قال: "يا سبحان"، قال القاضي أبو محمد الذي، وهذا ضعيف ومعناه تنزيهاً لله، "وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما معنى سبحان الله؟ قال: تنزيهاً لله من كل سوء" ، والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي هو من معناه لا من لفظه إذ يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء، فالتقدير عنده أنزه الله تنزيهاً فوقع { سبحان } مكان قولك تنزيهاً، وقال قوم من المفسرين: { أسرى } فعل غير متعد عداه هنا بحرف جر تقول سرى الرجل وأسرى إذ سار بالليل بمعنى، وقد ذكرت ما يظهر في اللفظ من جهة العقيدة، وقرأ حذيفة وابن مسعود "أسرى بعبده من الليل من المسجد الحرام"، وقوله من { المسجد الحرام }، قال أنس بن مالك: أراد المسجد المحيط بالكعبة نفسها ورجحه الطبري وقال: هو الذي يعرف إذا ذكر هذا الاسم، وروى الحسن بن أبي الحسن عن النبي عليه السلام أنه قال: "بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل والملائكة" ، الحديث بطوله. وروى قوم أن ذلك كان بين زمزم والمقام، وروى مالك بن صعصعة عن النبي عليه السلام: "بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان" ، وذكر عبد بن حميد الكشي في تفسيره عن سفيان الثوري أنه قال: أسري بالنبي عليه السلام من شعب أبي طالب، وقالت فرقة: { المسجد الحرام } مكة كلها واستندوا إلى قوله تعالى { { لتدخلن المسجد الحرام } [الفتح: 27] وعظم المقصد هنا إنما هو مكة، وروى بعض هذه الفرقة عن أم هاني أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيتي، وروي بعضها عن النبي عليه السلام، أنه قال: "خرج سقف بيتي" وهذا يلتئم مع قول أم هاني، وكان الإسراء فيما قال مقاتل قبل الهجرة بعام، وقاله قتادة، وقيل بعام ونصف، قاله عروة عن عائشة وكان ذلك في رجب، وقيل في ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول والنبي صلى الله عليه وسلم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة، وقبل بيعة العقبة، ووقع في الصحيحين لشريك بن أبي نمر وهم في هذا المعنى فإنه روى حديث الإسراء فقال فيه: وذلك قبل الوحي إليه، ولا خلاف بين المحدثين أن هذا وهم من شريك، و { المسجد الأقصى }، مسجد بيت المقدس، وسماه { الأقصى } أي في ذلك الوقت كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة، ويحتمل أن يريد بـ { الأقصى } البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة. و"البركة حوله" هي من جهتين، إحداهما النبوءة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه وبواديه، والأخرى النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: "إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس" وقوله: { لنريه من آياتنا } يريد لنري محمداً بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب، ويحتمل أن يريد لنري محمداً للناس آية، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع وتكون الرؤية على هذا رؤية قلب، ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة. وقوله: { إنه هو السميع البصير } وعيد من الله للكفار تكذيبهم محمداً في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي { هو السميع } لما تقولون { البصير } بأفعالكم.