خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً
١٨
وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً
١٩
كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً
٢٠
ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
٢١
لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً
٢٢
-الإسراء

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المعنى من كان يريد الدنيا العاجلة ولا يعتقد غيرها ولا يؤمن بآخرة فهو يفرغ أمله ومعتقده للدنيا، فإن الله يعجل لمن يريد من هؤلاء ما يشاء هذا المريد أو ما يشاء الله على قراءة من قرأ "نشاء" بالنون، وقوله { لمن يريد } شرط كاف على القراءتين ثم يجعل الله جهنم لجميع مريدي العاجلة على جهة الكفر من أعطاه فيها ما يشاء ومن حرمه، قال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته، وقرأ الجمهور: "نشاء" بالنون، وقرأ نافع أيضاً "يشاء" بالياء، و"المدحور" المهان المبعد المذلل المسخوط عليه، وقوله { ومن أراد الآخرة } الآية، المعنى ومن أراد الآخرة إرادة يقين بها وإيمان بها وبالله ورسالاته.
قال القاضي أبو محمد: وذلك كله مرتبط متلازم ثم شرط في مريد الآخرة أن يسعى لها سعيها وهو ملازمة أعمال الخير وأقواله على حكم الشرع وطرقه، فأولئك يشكر الله سعيهم ولا يشكر الله عملاً ولا سعياً إلا أثاب عليه وغفر بسببه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش فشكر الله له فعفر له، وقوله { كلاًّ نمد } الآية نصب { كلاًّ } بـ { نمد }، وأمددت الشيء إذا زدت فيه من غيره نوعه، ومددته إذا زدت فيه من نوعه، وقيل هما بمعنى واحد، يقال مد وأمد. و { هؤلاء } بدل من قوله { كلاًّ } فهو في موضع نصب، وقوله { من عطاء ربك } يحتمل أن يريد من الطاعات لمريدي الآخرة والمعاصي لمريدي العاجلة، وروي هذا التأويل عن ابن عباس، ويحتمل أن يريد بـ "العطاء" رزق الدنيا، وهذا تأويل الحسن بن أبي الحسن وقتادة، أي إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي الآخرة المؤمنين ومريدي العاجلة من الكافرين ويمدهم بعطائه منها وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة، ويتناسب هذا المعنى مع قوله { وما كان عطاء ربك محظوراً }، أي إن رزقه في الدنيا لا يضيق عن مؤمن ولا كافر، وقلما تصلح هذه العبارة لمن يمد بالمعاصي التي توبقه، و"المحظور" الممنوع. وقوله { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض }، آية تدل دلالة ما على أن العطاء في التي قبلها هو الرزق، وفي ذلك يترتب أن ينظر محمد عليه السلام إلى تفضيل الله لبعض على بعض في الرزق، ونحوه من الصور والشرف والجاه والحظوظ وبين أن يكون التفضيل الذي ينظر إليه النبي عليه السلام إن أعطى الله قوماً الطاعات المؤدية إلى الجنة وأعطى آخرين الكفر المؤدي إلى النار، وهذا قول الطبري: وهذا إنما هو النظر في تفضيل فريق على فريق، وعلى التأويل الآخر فالنظر في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين ومن الكافرين كيفما قرنتهما ثم أخبر عز وجل أن التفضيل الأكبر إنما يكون في الآخرة. وقوله { أكبر درجات } ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى ولا بد، أي { أكبر درجات } من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض إليها، وكذلك قوله { أكبر تفضيلاً }.
قال القاضي أبو محمد: وروى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين، وأسند الطبري في ذلك حديثاً نصه أن بين أعلى الجنة وأسفلها درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها.
قال القاضي أبو محمد: ولكن قد رضي الله الجميع فما يغبط أحد أحداً، ولا يتمنى ذلك بدلاً، وقوله { لا تجعل } الآية، الخطاب لمحمد عليه السلام، والمراد لجميع الخلق قاله الطبري وغيره، والذم هنا لاحق من الله تعالى ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عوداً أو حجراً أفضل من نفسه، ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه، و"الخذلان" في هذا يكون بإسلام الله وأن لا يكفل له بنصر، و"المخذول" الذي لا ينصره من يحب أن ينصره. والخاذل من الظبا التي تترك ولدها، ومن هذه اللفظة قول الراعي:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما وسعى فلم أر مثله مخذولا