خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً
٢
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً
٣
وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً
٤
-الإسراء

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

عطف قوله: { وآتينا } على ما في قوله { أسرى بعبده } [الإسراء: 1] من تقدير الخبر، كأنه قال أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا، و { الكتاب } التوراة، والضمير في { جعلناه } يحتمل أن يعود على { الكتاب } ويحتمل أن يعود على { موسى }. وقوله { ألا تتخذوا } يجوز أن تكون "أن" في موضع نصب بتقدير كراهية أن موضع خفض بتقدير لأن لا تتخذوا، ويجوز أن تكون "أن" مفسرة بمعنى أي كما قال { { أن امشوا واصبروا } [ص: 6] فهي في هذا مع أمر موسى وهي في آياتنا هذه مع نهي، والمعنى مع هذه التقديرات فعلنا ذلك لئلا تتخذوا يا ذرية، ويحتمل أن يكون { ذرية } مفعولاً، ويحتمل أن تكون "أن" زائدة ويضمر في الكلام قول تقديره قلنا لهم: لا تتخذوا، وأما أن يضمر القول ولا تجعل "أن" زائدة فلا يتجه، لأن ما بعد القول إما يكون جملة تحكى، وإما أن يكون ترجمة عن كلام لا هو بعينه، فيعمل القول في الترجمة كما تقول لمن قال: لا إله إلا الله قلت حقاً، وقوله: { ألا تتخذوا } ليس بواحد من هذين، قاله أبو علي وقرأ جمهور الناس "تتخذوا" بالتاء على المخاطبة، وقرأ أبو عمرو وحده "ألا يتخذوا" بالياء على لفظ الغائب، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبي رجاء، و"الوكيل" هنا فعيل من التوكل أي متوكلاً عليه في الأمور، فهو ند لله بهذا الوجه، قال مجاهد { وكيلاً } شريكاً، وقرأ جمهور الناس "ذُرية" بضم الذال وقرأ مجاهد بفتحها، وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان ومجاهد أيضاً بكسرها، وكل هذا بشد الراء والياء، ورويت عن زيد بن ثابت بفتح الذال وتسهيل الراء وشد الياء على وزن فعيلة، و { ذرية } وزنها فعولة، أصلها ذرورة، أبدلت الراء الثانية ياء كما قالوا قصيت شعري أي قصصته، ثم قلبت الواو ياء وأدغمت ثم كسرت الراء لتناسب الياء، وكل هؤلاء قرؤوا { ذرية } بالنصب، وذلك متجه إما على المفعول بـ "يتخذوا" ويكون المعنى أن لا يتخذ بشر إلهاً من دون الله، وإما على النداء أي يا ذرية، فهذه مخاطبة للعالم، قال قوم: وهذا لا يتجه إلا على قراءة من قرأ "تتخذوا" بالتاء من فوق، ولا يجوز على قراءة من قرأ "ويتخذوا" بالياء لأن الفعل الغائب والنداء لمخاطب والخروج من الغيبة إلى الخطاب إنما يستسهل مع دلالة الكلام على المراد، وفي النداء لا دلالة إلا على التكلف، وإما على النصب بإضمار أعني وذلك متجه على القراءتين على ضعف النزعة في إضمار أعني، وإما على البدل من قوله { وكيلاً } وهذا أيضاً فيه تكلف، وقرأت فرقة "ذريةٌ" بالرفع على البدل من الضمير المرفوع في "يتخذوا" وهذا إنما يتوجه على القراءة بالياء، ولا يجوز على القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت: ضربتك زيداً على البدل لم يجز، وقوله: { ذرية من حملنا مع نوح } إنما عبر بهذه العبارة عن الناس الذين عناهم في الآية بحسب الخلاف المذكور لأن في هذه العبارة تعديد النعمة على الناس في الإنجاء المؤدي إلى وجودهم، ويقبح الكفر والعصيان مع هذه النعمة، والذين حملوا مع نوح وأنسلوا هم بنوه لصلبه لأنه آدم الأصغر، وكل من على الأرض اليوم من نسله هذا قول الجمهور ذكره الطبري عن قتادة ومجاهد وإن كان معه غيرهم فلم ينسل قال النقاش: اسم نوح عبد الجبار، وقال ابن الكلبي: اسمه فرج، ووصفه بـ "الشكر" لأنه كان يحمد الله في كل حال وعلى كل نعمة على المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى الله عليه وسلم، قاله سلمان الفارسي وسعيد بن مسعود وابن أبي مريم وقتادة، وقوله: { وقضينا إلى بني إسرائيل } الآية، قال الطبري: معنى { قضينا } فرغنا وحكي عن غيره أنه قال: { فضينا } هنا بمعنى أخبرنا، وحكي عن آخرين أنهم قالوا { قضينا } معناه في أم الكتاب.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه: وإنما يلبس في هذا المكان تعدية { قضينا } بـ { إلى }، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى. فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعاً في إيجاز، جعل { قضينا } دالة على النفوذ في أم الكتاب، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال { قضينا إلى بني إسرائيل } معناه أعلمناهم، وقال مرة: معناه قضينا عليهم. و { الكتاب } هنا التوراة لأن القسم في قوله { لتفسدن } غير متوجه مع أن يجعل { الكتاب } هو اللوح المحفوظ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي "في الكتب" على الجمع، قال أبو حاتم: قراءة الناس على الإفراد، وقرأ الجمهور "لتُفسِدن" بضم التاء وكسر السين، وقرأ عيسى الثقفي "لَتفسُدُن" بفتح التاء وضم السين والدال، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد "لتُفسَدُن" بضم التاء وفتح السين وضم الدال. وقوله { ولتعلن } أي لتتجبرون عن طاعة الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا.
قال القاضي أبو محمد: ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل: كان بين "المرتين" آخر الأولى وأول الثانية مائتَا سنة وعشر سنين ملكاً مؤبداً بأنبياء وقيل سبعون سنة.