خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً
٥
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً
٦
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً
٧
-الإسراء

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

الضمير في قوله { أولاهما } عائد على قوله { مرتين } [الإسراء: 4] وعبر عن الشر بـ "الوعد" لأنه قد صرح بذكر المعاقبة، وإذا لم يجيء "الوعد" مطلقاً فجائز أن يقع في الشر، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن "عبيداً"، واختلف الناس في العبيد المبعوثين، وفي صورة الحال اختلافاً شديداً متباعداً عيونه: أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكرياء عليه السلام فغزاهم سنحاريب ملك بابل، كذا قال ابن إسحاق وابن جبير، وقال ابن عباس: غزاهم جالوت من أهل الجزيرة وروي عن عبد الله ابن الزبير أنه قال في حديث طويل: غزاهم آخراً ملك اسمه خردوس، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد لخردوس اسمه بيورزاذان، وكف عن بني إسرائيل وسكن بدعائه دم يحيى بن زكرياء، وقيل غزاهم أولاً صنحابين ملك رومة، وقيل بختنصر، وروي أنه دخل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش، وبعثه فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ثم انصرف فوجدوا الملك قد مات فملك موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك، وقالت فرقة: إنما غزاهم بختنصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى ابن زكرياء، وصورة قتله: أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته فنهاه يحيى عنها فعز ذلك على امرأته، فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر وقالت لها: إذا راودك الملك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمنين، فإذا قال لك تمني علي ما أردت، فقولي رأس يحيى بن زكرياء: ففعلت الجارية ذلك فردها الملك مرتين وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم وهو يقول لا تحل لك، وجرى دم يحيى فلم ينقطع فجعل الملك عليه التراب حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث، فلما غزاهم الملك الذي بعث الله عليهم بحسب الخلاف الذي فيه، قتل منهم على الدم حتى سكن بعد قتل سبعين ألفاً، هذا مقتضى هذا الخبر، وفي بعض رواياته زيادة ونقص، فروت فرقة: أن أشعياء النبي عليه السلام وعظهم في بعض الأمر وذكرهم الله ونعمه في مقام طويل قصة الطبري، وذكر أشعياء في آخره محمداً صلى الله عليه وسلم وبشر به فابتدره بنو إسرائيل، ففر منهم فلقي شجرة فتفلقت له حتى دخلها فالتأمت عليه، فعرض الشيطان عليهم هدبة من ثوبه فأخذوا منشاراً فنشروا الشجرة وقطعوه في وسطها فقتلوه، فحينئذ بعث الله عليهم في المرة الآخرة، وذكر الزهراوي عن قتادة قصصاً، أن زكرياء هو صاحب الشجرة وأنهم قالوا لما حملت مريم: ضيع بنت سيدنا حتى زنت فطلبوه فهرب منهم حتى دخل في الشجرة فنشروه، وروت فرقة أن بختنصر كان حفيد سنحاريب الملك الأول، وروت فرقة أن الذي غزاهم آخراً هو سابور ذو الأكناف، وقال أيضاً ابن عباس سلط الله عليهم حين عادوا ثلاثة أملاك من فارس سندابادان وشهرياران، وآخر، وقال مجاهد: إنما جاءهم في الأولى عسكر من فارس " فجاس خلال الديار" وتغلب ولكن لم يكن قتال، ولا قتل في بني إسرائيل، ثم انصرفت عنهم الجيوش وظهروا وأمدوا بالأموال والبنين حتى عصوا وطغوا فجاءهم في المرة الثانية من قتلهم وغلبهم على بيضتهم وأهلكهم آخر الدهر، وقوله عز وجل { فجاسوا خلال الديار } وهي المنازل والمساكن. وقوله تعالى: { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة } يرد على قول مجاهد إنه لم يكن في المرة الأولى غلبة ولا قتال وهل يدخل المسجد إلا بعد غلبة وقتال، وقد قال مؤرج، "جاسوا خلال الأزقة"، وقد ذكر الطبري في هذه الآية قصصاً طويلاً منه ما يخص الآيات وأكثره لا يخص وهذه المعاني ليست بالثابت فلذلك اختصرتها، وقوله { بعثنا } يحتمل أن يكون الله بعث إلى ملك تلك الأمة رسولاً يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقي في نفس الملك الذي غزاه وقرأ الناس "فجاسوا" بالجيم، وقرأ أبو السمال "فحاسوا" بالحاء وهما بمعنى الغلبة والدخول قسراً ومنه الحواس، وقيل لأبي السمال إنما القراءة "جاسوا" بالجيم فقال "جاسوا وحاسوا" واحد.
قال القاضي أبو محمد: فهذا يدل على تخير لا على رواية، ولهذا لا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه، وقرأ الجمهور: "خلال"، وقرأ الحسن بن أبي الحسن "خللَ" ونصبه في الوجهين على الظرف، وقوله { ثم رددنا لكم الكرة }، الآية عبارة عما قاله الله لبني إسرائيل في التوراة، وجعل { رددنا } موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى لما وصفنا، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه، وحسنت حالهم برهة من الدهر، وأعطاهم الله الأموال والأولاد، وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس، قال الطبري معناه وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم، قال قتادة: كانوا { أكثر نفيراً } في زمن داود عليه السلام، و"نفير" يحتمل أن يكون جمع نفر ككلب وكليب، وعبد وعبيد، ويحتمل أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل أي وجعلناكم أكثر نافراً.
قال القاضي أبو محمد: وعندي أن النفر اسم لا جمع الذي ينفر سمي بالمصدر، وقد قال تبع الحميري: [المتقارب].

فأكرم بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا

وقالوا: لا في العير ولا في النفير، يريدون جمع قريش الخارج من مكة لا بإذن، فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله { إن أحسنتم } والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلماً ولا تسرعاً إليكم، و { وعد الآخرة } معناه من المرتين المذكورتين، وقوله { ليسوءوا } اللام لام أمر، وقيل المعنى بعثناهم { ليسوءوا } فهي لام كي كلها، والضمير للعباد "أولي البأس الشديد"، وقرأ الجمهور: "ليسوءوا" بالياء جمع همزة وبين واوين، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر "ليسوءَ" بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد، وقرأ الكسائي، وهي مروية عن علي بن أبي طالب "لنسوء" بنون العظمة، وقرأ أبي بن كعب "لنسوءن" بنون خفيفة، وهي لام الأمر، وقرأ علي بن أبي طالب "ليسوءن"، وهي لام القسم والفاعل الله عز وجل، وفي مصحف أبي بن كعب "ليُسيء" بياء مضمومة بغير واو، وفي مصحف أنس "ليسوء وجهكم" على الإفراد، وخص ذكر "الوجوه" لأنها المواضيع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر، و { المسجد } مسجد بيت المقدس، و"تبر" معناه أفسد بقسم وركوب رأس، وقوله { ما علوا } أي ما غلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد، وقيل { ما } ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد، و"تبر" معناه رد الشيء فتاتاً كتبر الذهب والحديد، ونحوه وهو مفتتة.