خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً
٨٠
وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً
٨١
وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً
٨٢
وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً
٨٣
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً
٨٤
-الإسراء

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

ظاهر هذه الآية والأحسن فيها أن يكون دعاء في أن يحسن الله حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة، فهي على أتم عموم، معناه { ربِّ } أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري، وذهب المفسرون إلى أنها في غرض مخصوص، ثم اختلفوا في تعيينه، فقال ابن عباس والحسن وقتادة: أراد { أدخلني } المدينة { وأخرجني } من مكة، وتقدم في هذا التأويل المتأخر في الوقوع، فإنه متقدم في القول لأن الإخراج من مكة هو المتقدم، اللهم إن مكان الدخول والقرار هو الأهم، وقال أبو صالح ومجاهد: { أدخلني } في أمر تبليغ الشرع { وأخرجني } منه بالأداء التام، وقال ابن عباس: الإدخال بالموت في القبر والإخراج البعث، وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله، أصوب، وقرأ الجمهور "مُدخل"ومُخرج" بضم الميم، فهو جرى على { أدخلني وأخرجني } وقرأ أبو حيوة وقتادة وحميد، "مَدخل"ومَخرج" بفتح الميم، فليس بجار على { أدخلني } ولكن التقدير "أدخلني فأدخل مدخل"، لأنه إنما يجري على دخل، و"الصدق" هنا صفة تقتضي رفع المذام واستيعاب المدح، كما تقول رجل صدق أي جامع للمحاسن، وقوله { واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً } قال مجاهد وغيره: حجة، يريد تنصرني ببيانها على الكفار، وقال الحسن وقتادة يريد سعة ورياسة وسيفاً ينصر دين الله، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بأمر الله إياه به رغبة في نصر الدين، فروي أن الله وعده بذلك ثم أنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته، وقوله { وقل جاء الحق } الآية، قال قتادة: { الحق } القرآن، و { الباطل } الشيطان، وقالت فرقة: { الحق } الإيمان، { والباطل } الكفر، وقال ابن جريج: { الحق } الجهاد، { والباطل } الشرك، وقيل غير ذلك، والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما نطوى فيه، { وزهق } الكفر بجميع ما انطوى فيه، و { الباطل } كل ما لا تنال به غاية نافعة. وقوله { كان زهوقاً } ليست { كان } إشارة إلى زمن مضى، بل المعنى كان وهو يكون، وهذا كقولك كان الله عليماً قادراً ونحو هذا، وهذه الآية نزلت بمكة، ثم إن رسول الله كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة حسبما في السيرة لابن هشام وفي غيرها، وقرأ الجمهور "وننزل" بالنون، وقرأ مجاهد "وينزل" بالياء خفيفة، ورواها المروزي عن حفص، وقوله { من القرآن } يصح أن تكون { من } لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس كأنه قال وننزل ما فيه شفاء { من القرآن } وأنكر بعض المتأولين أن يكون { من } للتبعيض لأنه تحفظ من يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه.
قال القاضي أبو محمد: وليس يلزمه هذا بل يصح أن يكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض، فكأنه قال { وننزل من القرآن } شيئاً شيئاً ما فيه كله { شفاء }، واستعارته الشفاء للقرآن هو بحسب إزالته للريب وكشفه غطاء القلب لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى المقررة لشرعه، ويحتمل أن يراد بـ "الشفاء" نفعه من الأمراض بالرقى والتعويذ ونحوه، وكونه رحمته ظاهر، وقوله { ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } معنى أنه عليهم عمى، إذ هم معرضون بحالة من لا يفهم ولا يلقن. وقوله { وإذا أنعمنا } الآية، { الإنسان } في هذه الآية لا يراد به العموم، وإنما يراد به بعضه وهم الكفرة، وهذا كما تقول عند غضب: لا خير في الأصدقاء ولا أمانة في الناس، فأنت تعم مبالغة، ومرادك البعض، وهذا بحسب ذكر الظالمين، و"الخسار" في الآية قبل فاتصل ذكر الكفرة، ويحتمل أن يكون { الإنسان } في هذه الآية عاماً للجنس، على معنى أن هذا الخلق الذميم في سجيته، فالكافر يبالغ في الإعراض والعاصي يأخذ بحظه منه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤمن:
"فأعرض فأعرض الله عنه" ، ومعنى { أعرض } ولانا عرضه، ونأى أي بعد، وهذه استعارة، وذلك أنه يفعل أفعال المعرض النائي في تركه الإيمان بالله وشكر نعمه عليه، وقرأ ابن عامر وحده "وناء"، ومعناه نهض أي متباعداً، هذا قول طائفة، وقالت أخرى هو قلب الهمزة بعد الألف من { نأى } بعينه وهي لغة كرأى وراء، ومن هذه اللفظة، قول الشاعر في صفة رام: [الرجز]

حتى إذا ما التأمت مفاصله وناء في شق الشمال كاهله

أي نهض متوركاً على شماله، والذي عندي أن "ناء ونأى" فعلان متباينان، وناء بجانبه عبارة عن التحيز والاستبداد، ونأى عبارة عن البعد والفراق، ثم وصف الكفرة بأنهم إذا مسهم شر من مرض أو مصيبة في مال أو غير ذلك يئسوا من حيث لا يؤمنون بالله ولا يرجون تصرف أقداره، ثم قال عز وجل { قل } يا محمد { كل يعمل على شاكلته } أي على طريقته وبحسب نيته ومذهبه الذي يشبهه وهو شكله ومثل له، وهذه الآية تدل دلالة ما على أن { الإنسان } أولاً لم يرد به العموم، أي إن الكفار بهذه الصفات، والمؤمنون بخلافها، وكل منهم يعمل على ما يليق به، والرب تعالى أعلم بالمهتدي، وقال مجاهد: { على شاكلته } معناه على طبيعته، وقال أيضاً معناه على حدته، وقال ابن عباس: معناه على ناحيته، وقال قتادة: معناه على ناحيته وعلى ما ينوي، وقال ابن زيد: معناه على دينه، وأرجح هذه العبارات قول ابن عباس وقتادة وفي قوله { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } توعد بين .