خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
٢٨
وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً
٢٩
-الكهف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

سبب هذه الآية أن عظماء الكفار قيل من أهل مكة، وقيل عيينة بن حصن وأصحابه والأول أصوب، لأن السورة مكية، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، يريدون عمار بن ياسر وصهيب بن سنان وسلمان الفارسي وابن مسعود وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه، وقالوا إن ريح جباتهم تؤذينا، فنزلت الآية بسبب ذلك، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم وجلس بينهم، وقال الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه، وروي أنه قال لهم رحباً بالذي عاتبني فيهم ربي، وروى سلمان أن المؤلفة قلوبهم، عيينة ابن حصن والأقرع بن حابس وذويهم، قالوا ما ذكر، فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: فالآية على هذا مدنية، ويشبه أن تكون الآية مكية، وفعل المؤلفة قريش فرد بالآية عليهم، { واصبر } معناه احبس، ومنه المصبورة التي جاء فيها الحديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الحيوان، أي حبسه للرمي ونحوه، وقرأ الجمهور "بالغداة"، وقرأ ابن عامر "بالغدوة" وهي قراءة نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبي عبد الرحمن والحسن، وهي في الخط على القراءتين بالواو، فمن يقرأها "بالغداة" يكتبها "بالغدوة" كما تكتب "الصلوة والزكوة"، وفي قراءة من قرأ "بالغدوة" ضعف لأن "غدوة" اسم معروف فحقه أن لا تدخل عليه الألف واللام ووجه القراءة بذلك أنهم ألحقوها ضرباً من التنكير إذ قالوا حيث غدوة يريدون الغدوات فحسن دخول الألف واللام كقولهم الفينة وفينة اسم معرف، والإشارة بقوله { يدعون ربهم بالغداة والعشي } إلى الصلوات الخمس. قاله ابن عمر ومجاهد وإبراهيم، وقال قتادة المراد صلاة الفجر، وصلاة العصر.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل في الآية من يدعو في غير صلاة، ومن يجتمع لمذاكرة علم، وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"لذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله، ومن إعطاء المال سحاً" ، وقرأ أبو عبد الرحمن "بالغدو" دون هاء، وقرأ ابن أبي عبلة "بالغدوات"والعشيات" على الجمع، وقوله { ولا تعد عيناك } أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا والملابس من الكفار، وقرأ الحسن "ولا تُعَدِّ عينيك" بضم التاء وفتح العين وشد الدال المكسورة، أي لا تجاوزها أنت عليهم، وروي عنه "ولا تُعْد عينك" بضم التاء وسكون العين، وقوله { من أغفلنا } قيل إنه أراد بذلك معيناً وهو عيينة بن حصن، والأقرع قاله خباب، وقيل إنما أراد من هذه صفته، وإنما المراد أولاً كفار قريش، لأن الآية مكية، وقرأ الجمهور "أغفلنا قلبَه" بنصب الباء على معنى جعلناه غافلاً، وقرأ عمرو بن فائد وموسى الأسواري "أغفلنا قلبه" على معنى أهمل ذكرنا وتركه، قال ابن جني المعنى من ظننا غافلين عنه، وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة عمرو بن عبيد و"الفرط" يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع، أي أمره الذي يجب أن يلتزم، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، أي أمره وهواه الذي هو بسبيله، وقد فسره المتأولون بالعبارتين: أعني التضييع والإسراف، وعبر خباب عنه بالهلاك، وداود بالندامة، وابن زيد بالخلاف للحق، وهذا كله تفسير بالمعنى، وقوله تعالى: { وقل الحق } الآية، المعنى وقل لهم يا محمد هذا { الحق من ربكم } أي هذا القرآن، أو هذا الإعراض عنكم، وترك الطاعة لكم، وصبر النفس مع المؤمنين، وقرأ قعنب وأبو السمال "وقلَ" بفتح اللام قال أبو حاتم وذلك رديء في العربية، وقوله { فمن شاء فليؤمن } الآية توعد وتهديد، أي فليختر كل امرىء لنفسه ما يجده غداً عند الله عز وجل، وتأولت فرقة { فمن شاء } الله إيمانه { فليؤمن ومن شاء } الله كفره { فليكفر }، وهو متوجه، أي فحقه الإيمان وحقه الكفر، ثم عبر عن ذلك بلفظ الأمر إلزماً وتحريضاً، ومن حيث للإنسان في ذلك التكسب الذي به يتعلق ثواب الإيمان وعقاب الكفر، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي "فلِيؤمن"ولِيكفر" بكسر اللامين { وأعتدنا } مأخوذ من العتاد وهو الشيء المعد الحاضر و"السرادق" وهو الجدار المحيط كالحجرة التي تدور وتحيط الفسطاط، وقد تكون من نوع الفسطاط أديماً أو ثوباً أو نحوه، ومنه قول رؤبة: [الرجز]

يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق والمجد عليك ممدود

ومنه قول سلامة بن جندل: [الطويل]

هو المولج النعمان بيتا سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق

وقال الزجاج "السرادق" كل ما أحاط بشيء.
قال القاضي أبو محمد: وهو عندي أخص مما قال الزجاج، واختلف في "سرادق" النار فقال ابن عباس { سرادقها } حائط من نار وقالت فرقة { سرادقها } دخان يحيط بالكفار، وقوله تعالى:
{ { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } [المرسلات: 30] وقالت فرقة الإحاطة هي في الدنيا، والسرادق البحر، وروي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق يعلى بن أمية، فيجيء قوله تعالى: { أحاط بهم } أي بالبشر ذكر الطبري الحديث عن يعلى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البحر هي جهنم" وتلا هذه الآية: ثم قال "والله لا أدخله أبداً أو ما دمت حياً" ، وروي عنه أيضاً عليه السلام من طريق أبي سعيد الخدري أنه قال "سرادق النار أربعة جدور، كتف عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة" ، وقوله عز وجل { يغاثوا } أي يكون لهم مقام الغوث وهذا نحو قول الشاعر: [الوافر]

تحية بينهم ضرب وجيع

أي القائم مقام التحية و"المهل" قال أبو سعيد عن النبي عليه السلام هو دردي الزيت إذا انتهى حده، وقالت فرقة هو كل مائع سخن حتى انتهى حره، وقال ابن مسعود وغيره هو كل ما أذيب من ذهب أو فضة أو رصاص أو نحو هذا من الفلز حتى يميع، وروي أن عبد الله بن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب أو فضة فأمر بها فأذيبت حتى تميعت وتلونت ألواناً ثم دعا من ببابه من أهل الكوفة، فقال ما رأيت في الدنيا شيئاً أدنى شبهاً "بالمهل" من هذا، يريد أدنى شبهاً بشراب أهل النار، وقالت فرقة "المهل": الصديد والدم إذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر الصديق في الكفن: "إنما هو للمهلة"، يريد لما يسيل من الميت في قبره، ويقوى هذا بقوله { { ويسقى من ماء صديد } [إبراهيم: 16] الآية. وقوله { يشوي الوجوه } روي في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "تقرب الشربة من الكافر، فإذا دنت منه تكرهها، فإذا دنت أكثر شوت وجهه، وسقطت فيها فروة وجهه، وإذا شرب تقطعت أمعاؤه" . و"المرتفق"، الشيء الذي يرتفق به أي يطلب رفقه، و"المرتفق" الذي هو المتكأ أخص من هذا الذي في الآية، لأنه في شيء واحد من معنى الرفق، على أن الطبري قد فسر الآية به، والأظهر عندي أن يكون "المرتفق" بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره، وقال مجاهد "المرتفق" المجتمع كأنه ذهب بها إلى موضع الرفاقة، ومنه الرفقة، وهذا كله راجع إلى الرفق، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى، والقول بين الوجه، والله المعين.