خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً
٥٨
وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
٥٩
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَٰهُ لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً
٦٠
-الكهف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

لما أخبر تعالى عن القوم الذين حتم بكفرهم، أنهم لا يهتدون أبداً، عقب ذلك بأنه للمؤمنين، { الغفور ذو الرحمة }، ويتحصل للكفار من صفته تعالى بالغفران والرحمة، ترك المعاجلة، ولو أخذوا بحسب ما يستحقونه لبادرهم بالعذاب المبيد لهم، ولكنه تعالى أخرهم إلى موعد لا يجدون عنه منجي، قالت فرقة هو أجل الموت، وقالت فرقة هو عذاب الآخرة، وقال الطبري هو يوم بدر، والحشر و"الموثل" المنجى يقال: وأل الرجل يئل إذا نجا. ومنه قول الشاعر:

لا وألت نفسك خيلتها للعامريين ولم تكلم

ومنه قول الأعشى: [البسيط]

وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل

ثم عقب تعالى توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما توعد هؤلاء بمثله، وفي قوله { وتلك القرى } حذف مضاف تقديره { وتلك } أهل { القرى } يدل على ذلك قوله { أهلكناهم } فرد الضمير على أهل القرى، و { القرى }: المدن، وهذه الإشارة إلى عاد وثمود ومدين وغيرهم. { وتلك } ابتداء، و { القرى } صفته، و { أهلكناهم } خبر، ويصح أن يكون { تلك } منصوباً بفعل يدل عليه { أهلكناهم }. وقرأ الجمهور "لَمُهلكهم" بضم الميم وفتح اللام، من أهلك، ومفعل في مثل هذا يكون لزمن الشيء، ولمكانه، ويكون مصدراً فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر "لَمَهلكهم" بفتح الميم واللام وقرأ في رواية حفص "لِمَهلكهم" بفتح الميم وكسر اللام، وهو مصدر من هلك، وهو في مشهور اللغة غير متعد، فالمصدر على هذا مضاف إلى الفاعل، لأنه بمعنى: وجعلنا لأن هلكوا موعداً، وقالت فرقة إن هلك يتعدى، تقول أهلكت الرجل وهلكته بمعنى واحد، وأنشد أبو علي في ذلك: [الرجز]

ومَهْمَهٍ هالك من تعرجا

فعلى هذا يكون المصدر في كل وجه مضافاً إلى المفعول، وقوله { وإذ قال موسى } الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول، المعنى: اذكر واتل، و { موسى } هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه، وقالت فرقة منها نوف البكالي أنه ليس موسى بن عمران، وهو موسى بن مشنى، ويقال ابن منسى، وأما "فتاه" فعلى قول من قال موسى بن عمران، فهو يوشع بن نون بن إفراييل بن يوسف بن يعقوب، وأما من قال هو موسى بن مشنى فليس الفتى يوشع بن نون، ولكنه قول غير صحيح، رده ابن عباس وغيره و"الفتي" في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتياناً، قيل للخادم فتى، على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي" ، فهذا اندب إلى التواضع، و"الفتى" في الآية هو الخادم، ويوشع بن نون يقال هو ابن أخت موسى عليه السلام، وسبب هذه القصة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل، وخطب فأبلغ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك قال لا، فأوحى الله إليه بلى: عبدنا خضر، فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقيه، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ { مجمع البحرين } فإذا فقدت الحوت فإنه هنالك، وأمر أن يتزود حوتاً، ويرتقب زواله عنه، ففعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة { لا أبرح } أسير، أي لا أزال، وإنما قال هذه المقالة وهو سائر، ومن هذا قول الفرزدق: [الطويل]

فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم

وذكر الطبري عن ابن عباس: قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر، أنزل قومه بمصر، فلما استقرت الحال خطب يوماً، فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل، ثم ذكر نحو ما تقدم، وما مر بي قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام، وما أراه يصح، بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين، وفي هذه القصة من الفقه الرحلة في طلب العلم، والتواضع للعالم، وقرأ الجمهور "مَجمَع" بفتح الميمين، وقرأ الضحاك "مَجمِع" بكسر الميم الثانية، واختلف الناس في { مجمع البحرين } أين هو؟ فقال مجاهد وقتادة هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم.
قال القاضي أبو محمد: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام، هو { مجمع البحرين } هو عند طنجة وهو حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه السائر من دبور إلى صبا. وروي عن أبي بن كعب أنه قال { مجمع البحرين } بإفريقية، وهذا يقرب من الذي قبله، وقال بعض أهل العلم هو بحر الأندلس من البحر المحيط، وهذا كله واحد حكاه النقاش وهذا مما يذكر كثيراً، ويذكر أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء، وقالت فرقة { مجمع البحرين } يريد بحراً ملحاً وبحراً عذباً، فعلى هذا إنما كان الخضر عند موقع نهر عظيم في البحر، وقالت فرقة البحران إنما هما كناية عن موسى والخضر، لأنهما بحرا علم، وهذا قول ضعيف والأمر بين من الأحاديث أنه إنما رسم له ماء بحر، وقوله { أو أمضي حقباً } معناه أو أمضي على وجهي زماناً، واختلف القراء، فقرأ الحسن والأعمش وعاصم "حقباً" بسكون القاف، وقرأ الجمهور "حقباً" بضمه، وهو تثقيل حقب، وجمع الحقب أحقاب، واختلف في الحقب، فقال عبد الله بن عمرو ثمانون سنة، وقال مجاهد سبعون، وقال الفراء "الحقب" سنة واحدة وقال ابن عباس وقتادة أزمان غير محدودة وقالت فرقة "الحقب" جمع حقبة، وفي السنة كأنه قال أو أمضي سنين.