خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١١
-النور

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية أنزلت في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وما اتصل بذلك من أمر "الإفك" وفي البخاري في غزوة بني المصطلق عن عائشة قالت وأنزل الله العشر الآيات ثم أنزل الله ما قرىء في براءتي فكأنها عدت ما تختص بها. و"الإفك" الزور والكذب، والأفاك الكذاب، و"الإفك" قلب الحقيقة عن حالها بالأقوال وصرفها عن جهة الصواب وبذلك شبه الكذب واختصار حديث "الإفك" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بعائشة في غزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع قال ابن إسحاق كانت سنة ست، وقال ابن عقبة كانت سنة أَربع فضاع لها هناك عقد، فلما انصرفت إلى الرحل شعرت بضياعه وجعلت تطلبه، وسار الناس يومئذ فوجدته وانصرفت فلم تجد أحداً وكانت شابة قليلة اللحم رفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أَن تفتقد فيرجع عنها فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل إنا لله وإِنا إليه راجعون، وذلك أنه تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة وقيل اتفاقاً فلما مر بسوادها قرب منها فعرفها، فاسترجع وقال ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفت هاهنا، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة فوقع أهل "الإفك" في مقالتهم وكل الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه عبدالله بن أبي ابن سلول المنافق وكان من قالته حسان ابن ثابت ومسطح بن أَثاثة وحمنة بنت جحش، وهذا اختصار الحديث هو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم وهو في مسلم أكمل وكان صفوان صاحب ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته وكان من خيار الصحابة قال لما سمع ما قال الناس فيه: سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط.
قال الفقيه الإمام القاضي: أراد بزنى، ويدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنيه
"لهما أشبه به من الغراب بالغراب" وقيل كان حصوراً لا يأتي النساء ذكره ابن إسحاق عن طريق عائشة، وقتل شهيداً رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشر في زمن عمر، وقيل في بلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمن معاوية، وقوله { عصبة } رفع على البدل من الضمير في { جاؤوا } وخبر { إن } في قوله { لا تحسبوه } والتقدير إن فعل الذين، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أَن يكون { عصبة } خبر { إن } و"العصبة" الجماعة من العشرة إلى الأربعين، قاله يعقوب وغيره ولا يقال عصبة لأقل من عشرة ولم يسم من أهل "الإفك" إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله وجهل الغير قاله عروة بن الزبير وقد سأله عن ذلك عبدالملك بن مروان وقال ألا إنهم كانوا { عصبة } كما قال الله تعالى. وقوله { لا تحسبوه } خطاب لكل من ساءه من المؤمنين، وقوله { بل هو خير لكم } يريد لنه تبرئة في الدنيا وترفيع من الله تعالى في أَن نزل وحيه بالبراءة من ذلك وأجر جزيل في الآخرة وموعظة للمؤمنين في غابر الزمن، ونقمة من المفترين في الدنيا والآخرة. ففي ذلك شفاء وخير وهذه خمسة أوجه، والضمير في قوله { منهم } عائد على العصبة المذكورة، و { اكتسب } مستعملة في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في التذنيب، وكسب مستعمل في الخير وذلك أن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه، وقد تستعمل كسب في الوجهين ومثله:
فحملت برة واحتملت فجاره، والإشارة بقوله { والذي تولى كبره } إلى عبد الله بن أبي بن سلول، والعذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة، وهذا قول الجمهور وهو ظاهر الحديث، وروي عن عائشة رضي الله عنها أَن حسان بن ثابت دخل عليها يوماً وقد عمي فأنشدها مدحه فيها: [الطويل]

حصان رزان ما تزنُّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت له عائشة: لا لكنك لست كذلك تريد أَنه وقع في الغوافل فأنشد: [الطويل]

فإن كان ما قد قيل عني قلته فلا رفعت سوطي إليَّ أَناملي

فلما خرج قال لها مسروق أيدخل هذا عليك وقد قال ما قال وتوعده الله بالعذاب على توليه كبر الإفك، فقالت عائشة أي عذاب أشد من العمى، وضرب الحد؟ وفي بعض الروايات وضربه بالسيف ع فأما قولها عن الحد فإن حسان بن ثابت وحمنة ومسطحاً حدوا، ذكر ذلك ابن إسحاق وذكره الترمذي وأَما ضربه بالسيف فإن صفوان بن العطل لما بلغه قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال: [الطويل]

تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر

فأخذ جماعة صفوان ولببوه وجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر رسول الله صلى الله عليه جرح حسان أو استوهبه إياه وهذا يقتضي أن حسان ممن تولى الكبر، وقال الإشارة بـ { الذي } إلى البادي بهذه الفرية والذي اختلقها فـ { لكل } واحد { منهم ما اكتسب } وللبادي المفتري عذاب عظيم، وهو على هذا غير معين وهذا قول الضحاك والحسن وقال أَبو زيد وغيره هو عبدالله بن أَبي، وقرأ جمهور الناس "كِبره" بكسر الكاف، وقرأ حميد والأعرج ويعقوب والزهري وأَبو رجاء والأعمش وابن أَبي عبلة "كُبره" بضم الكاف وهما مصدران من كبر الشيء عظم، ولكن استعملت العرب ضم الكاف في السن تقول هذا كبر القوم أي كبيرهم سناً أو مكانة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حويصة ومحيصة "الكبر الكبر" ومن استعماله في المعنى الثاني قول ابن الحطيم: [المنسرح]

تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويداً تكاد تنقصف