خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
٣٦
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ
٣٧
-النور

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

الباء في { بيوت } : تضم وتكسر، واختلف في الفاء من قوله { في } فقيل هي متعلقة بـ{ مصباح } [النور: 35] قال أبو حاتم وقيل متعلقة بــ { يسبح } المتأخر، فعلى هذا التأويل يوقف على { عليم } [النور: 38] قال الرماني هي متعلقة بـ{ يوقد } [النور: 35] واختلف الناس في البيوت التي أَرادها بقوله تعالى: { في بيوت أذن الله أن ترفع } فقال ابن عباس والحسن ومجاهد هي المساجد المخصوصة لله تعالى التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح، وقال الحسن بن أَبي الحسن أراد بيت المقدس وسماه بيوتاً من حيث فيه مواضيع يتحيز بعضها عن بعض.
قال الفقيه الإمام القاضي : ويؤثر، أن عادة بني إسرائيل في وقيد بيت المقدس كانت غاية في التهمم به، وكان الزيت منتخباً مختوماً على ظروفه قد صنع صنعة وقدس حتى لا يجزى الوقيد بغيره، فكان لهذا ونحوه أضوأ بيوت الأرض، وقال عكرمة أراد بيوت الإِيمان على الإطلاق مساجد ومساكن فهي التي يستصبح فيها بالليل للصلاة وقراءة العلم، وقال مجاهد أراد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى: { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال } يقوي أنها المساجد وقوله: { أذن } بمعنى أمر وقضى، وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر فإن اقترن بذلك أمر وإنفاذ كان أقوى، و { ترفع }، قيل معناه تبنى وتعلى، قاله مجاهد وغيره فذلك كنحو قوله تعالى:
{ { وإذ يرفع إبراهيم القواعد } } [البقرة: 127] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بنى مسجداً من ماله بنى الله له بيتاً في الجنة" ، وفي هذا المعنى أحاديث، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره معناه تعظم ويرفع شأنها، وذكر { اسمه } تعالى، هو بالصلاة والعبادة قولاً وفعلاً، وقرأ ابن كثير وعاصم "يسبَّح" بفتح الباء المشددة، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم "يسبِّح" بكسر الباء، فـ { رجال } على القراءة الأولى مرتفع بفعل مضمر يدل عليه { يسبح } تقديره يسبحه رجال، فهذا عند سيبويه نظير قول الشاعر: "ليبك يزيد ضارع لخصومة" أي يبكيه ضارع، و { رجال } على القراءة الثانية مرتفع بــ { يسبح } الظاهر، وروي عن يحيى بن وثاب أنه قرأ "تسبح" بالتاء من فوق، و { الغدو والآصال } قال الضحاك أراد الصبح والظهر، وقال ابن عباس أراد ركعتي الضحى والعصر وإن ركعتي الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص، وقرأ أبو مجلز "والإيصال" ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا، وقال كثير من الصحابة نزلت هذه الآية في أَهل الأَسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله: { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله }، وروي ذلك عن ابن مسعود، { وإقام }، مصدر من أقام يقيم أصله أقوام نقلت حركة الواو إلى القاف فبقيت ساكنة والألف ساكنة فحذفت للالتقاء، فجاء { إقام }، بعض النحويين هو مصدر بنفسه قد لا يضاف وقيل لا يجوز أقمته إقاماً، وإنما يستعمل مضافاً، ذكره الرماني وقال بعضهم من حيث رأوه لا يستعمل إلا مضافاً ألحقت به هاء عوضاً من المحذوف فجاء إقامة، فهم إذا أضافوه حذفوا العوض لاستغنائهم عنه بأَن المضاف والمضاف إليه كاسم واحد، و { الزكاة } هنا عند ابن عباس الطاعة لله، وقال الحسن هي الزكاة المفروضة في المال، و "اليوم المخوف" الذي ذكره تعالى، هو يوم القيامة، واختلف الناس في تقلب { القلوب والأبصار } كيف هو، فقالت فرقة يرى الناس الحقائق عياناً فتتقلب قلوب الشاكين ومعتقدي الضلال عن معتقداتها إلى اعتقاد الحق على وجهه وكذلك الأبصار وقالت فرقة هو تقلبها على جمر جهنم.
قال الفقيه الإمام القاضي : ومقصد الآية إنما هو وصف هول يوم القيامة، فأما القول الأول فليس يقتضي هولاً وأما الثاني فليس التقلب في جمر جهنم في يوم القيامة وإنما هو بعده.
وإنما معنى الآية عندي أن ذلك اليوم لشدة هوله ومطلعه، القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى حذر، ومن نظر في هول إلى النظر في الآخر، والعرب تستعمل هذا المعنى في الحروب ونحوها ومنه قول الشاعر:

"بل كان قلبك في جناحي طائر"

ومنه قول بشار

كان فؤاده كرة تنزى

ومنه قول الآخر:

"إذا حلق النجيد وصلصل الحديد"

وهذا كثير.