خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ
١٤
-آل عمران

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قرأ جمهور الناس "زُين" على بناء الفعل للمفعول ورفع "حبُّ" على أنه مفعول لم يسم فاعله، وقرأ الضحاك ومجاهد "زَين" على بناء الفعل للفاعل ونصب "حبَّ" على أنه المفعول، واختلف الناس من المزين؟ فقالت فرقة: الله زين ذلك وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه قال لما نزلت هذه الآية: قلت الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت: { { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } [آل عمران: 15]، وقالت فرقة: المزين هو الشيطان، وهذا ظاهر قول الحسن بن أبي الحسن، فإنه قال من زينها؟ ما أحد أشد لها ذماً من خالقها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وإذا قيل زين الله، فمعناه بالإيجاد والتهيئة لانتفاع وإنشاء الجبلة عن الميل إلى هذه الأشياء، وإذا قيل زين الشيطان فمعناه بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. والآية تحتمل هذين النوعين من التزيين ولا يختلف مع هذا النظر، وهذه الآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توضح لمعاصري محمد عليه السلام من اليهود وغيرهم، و { الشهوات } ذميمة واتباعها مردٍ وطاعتها مهلكة، وقد قال عليه السلام:
"حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره" فحسبك أن النار حفت بها، فمن واقعها خلص إلى النار، و { والقناطير } جمع قنطار، وهو العقدة الكبيرة من المال، واختلف الناس في تحرير حده كم هو؟ فروى أبي بن كعب، عن النبي عليه السلام أنه قال: القنطار ألف ومائتا أوقية، وقال بذلك معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وعاصم بن أبي النجود وجماعة من العلماء، وهو أصح الأقوال، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية، وقال ابن عباس والضحاك بن مزاحم والحسن بن أبي الحسن: القنطار ألف ومائتا مثقال، وروى الحسن ذلك مرفوعاً عن النبي عليه السلام، قال الضحاك وهو من { الفضة } ألف ومائتا مثقال، وروي عن ابن عباس أنه قال: القنطار من { الفضة } اثنا عشر ألف درهم، ومن { الذهب } ألف دينار، وروي بذلك عن الحسن والضحاك وقال سعيد بن المسيب: القنطار ثمانون ألفاً، وقال قتادة: القنطار مائة رطل من { الذهب } أو ثمانون ألف درهم من { الفضة }، وقال السدي: القنطار ثمانيه آلاف مثقال وهي مائة رطل، وقال مجاهد القنطار سبعون ألف دينار، وروي ذلك عن ابن عمر، وقال أبو نضرة: القنطار ملء مسك ثور ذهباً.
قال ابن سيده: هكذا هو بالسريانية، وقال الربيع بن أنس: القنطار المال الكثير بعضه على بعض، وحكى النقاش عن ابن الكلبي، أن القنطار بلغة الروم ملء مسك ثور ذهباً، وقال النقاش: { القناطير } ثلاثة، { والمقنطرة } تسعة لأنه جمع الجمع، وهذا ضعف نظر وكلام غير صحيح، وقد حكى مكي نحوه عن ابن كيسان أنه قال: لا تكون { المقنطرة } أقل من تسعة وحكى المهدوي عنه وعن الفراء، لا تكون { المقنطرة } أكثر من تسعة، وهذا كله تحكم. قال أبو هريرة: القنطار اثنا عشر ألف أوقية، وحكى مكي قولاً إن القنطار أربعون أوقية ذهباً أو فضة، وقاله ابن سيده في المحكم، وقال: القنطار بلغة بربر ألف مثقال، وروى أنس بن مالك عن النبي عليه السلام في تفسير قوله تعالى:
{ { وآتيتم إحداهن قنطاراً } [النساء: 20] قال ألف دينار ذكره الطبري، وحكى الزجاج أنه قيل: إن القنطار هو رطل ذهباً أوفضة وأظنها وهماً، وإن القول مائة رطل فسقطت مائة للناقل، والقنطار إنما هو اسم المعيار الذي يوزن به، كما هو الرطل والربع، ويقال لما بلغ ذلك الوزن هذا قنطار أي يعدل القنطار، والعرب تقول: قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار، وقال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وأحكامه والقنطرة المعقودة نحوه، فكأن القنطار عقدة مال.
واختلف الناس في معنى قوله: { المقنطرة } فقال الطبري: معناه المضعفة، وكأن { القناطير } ثلاثة و { المقنطرة } تسع، وقد تقدم ذكر هذا النظر، وقال الربيع: معناه المال الكثير بعضه فوق بعض، وقال السدي: معنى { المقنطرة }، المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم، وقال مكي: { المقنطرة } المكملة، والذي أقول: إنها إشارة إلى حضور المال وكونه عتيداً، فذلك أشهى في أمره وذلك أنك تقول في رجل غني من الحيوان والأملاك: فلان صاحب قناطير مال أي لو قومت أملاكه لاجتمع من ذلك ما يعدل قناطير، وتقول في صاحب المال الحاضر العتيد هو صاحب قناطير مقنطرة أي قد حصلت كذلك بالفعل بها، أي قنطرت فهي مقنطرة، وذلك أشهى للنفوس وأقرب للانتفاع وبلوغ الآمال. وقد قال مروان بن الحكم، ما المال إلا ما حازته العياب، وإذا كان هذا فسواء كان المال مسكوكاً، أو غير مسكوك، أما أن المسكوك أشهى لما ذكرناه، ولكن لا تعطي ذلك لفظة { المقنطرة }.
{ والخيل }: جمع خائل عند أبي عبيدة، سمي الفرس لأنه يختال في مشيه فهو كطائر وطير، وقال غيره: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه، واختلف المفسرون في معنى { المسومة } فقال سعيد بن جبير وابن عباس وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى والحسن والربيع ومجاهد، معناه الراعية في المروج والمسارح تقول: سامت الدابة أو الشاة إذا سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر عن حال دون حال، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"في سائمة الغنم الزكاة" ومنه قوله عز وجل: { { فيه تسيمون } [النحل: 10] وروي عن مجاهد أنه قال: { المسومة } معناه المطهمة الحسان، وقاله عكرمة، سومها الحسن، وروي عن ابن عباس أنه قال: { المسومة } معناه المعلمة، شيات الخيل في وجوهها وقاله قتادة، ويشهد لهذا القول بيت لبيد: [الكامل]

وَغَدَاةَ قاعِ الْقرْنَتينِ أتيْنَهُمْ زُجْلاً يلوحُ خِلالها التَّسْوِيمُ

وأما قوله النابغة: [الوافر]:

بسمرٍ كَالْقِداحِ مُسَوَّمَاتٍ عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جنِّ

فيحتمل أن يريد المطهمة الحسان، ويحتمل أن يريد المعلمة بالشيات ويحتمل أن يريد المعدة، وقد فسر الناس قوله تعالى: { { مسومة عند ربك } [هود: 83] بمعنى معدة، وقال ابن زيد في قوله تعالى: { والخيل المسومة } معناه: المعدة للجهاد.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: قوله: للجهاد ليس من تفسير اللفظة، { والأنعام } الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز { والحرث } هنا اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به، تقول: حرث الرجل إذا أثار ألأرض لمعنى الفلاحة فيقع اسم الحرث على زرع الحبوب وعلى الجنات وغير ذلك من أنواع الفلاحة. وقوله تعالى:
{ { إذ يحكمان في الحرث } [الأنبياء: 78] قال جمهور المفسرين، كان كرماً، والمتاع ما يستمتع به وينتفع مدة ما منحصرة، و { المآب } المرجع، تقول: آب الرجل يؤوب، ومنه قول الشاعر: [الوافر]

رضيتُ من الْغَنِيمَةِ بالإيَابِ

وقول الآخر [بشر بن أبي خازم]: [الوافر]

إذا ما القَارِظُ العنَزِيّ آبا

وقول عبيد: [مخلع البسيط]

وَغَائِبُ الموتِ لا يؤوبُ

وأصل مآب مأوب، نقلت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف، مثل مقال، فمعنى الآية تقليل أمر الدنيا وتحقيرها، والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة، وفي قوله: { زين للناس } تحسر ما على نحو ما في قول النبي عليه السلام: تتزوج المرأة لأربع -الحديث- وقوله تعالى: { { قل أؤنبئكم } [آل عمران: 15] بمثابة قول النبي عليه السلام: "فاظفر بذات الدين".