خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
١٦
فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٧
أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ
١٨
أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٩
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢٠
-السجدة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

جفا الرجل الموضع إذا تركه، و"تجافى الجنب" عن مضجعه إذا تركه وجافى الرجل جنبه عن مضجعه، ومنه في الحديث "ويجافي بضبعيه" أي يبعدهما عن الأرض وعن يديه، فقوله { تتجافى جنوبهم } أي تبعد وتزول، ومنه قول عبد الله بن رواحة: [الطويل]

نَبِيٌّ تجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

ويروى يبيت يجافي، قال الزجاج والرماني: التجافي التنحي إلى جهة فوق.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول حسن، وكذلك في الصفح عن المخطي في سب ونحوه، و"الجنوب" جمع جنب، و { المضجع } موضع الاضطجاع للنوم، وقال أنس بن مالك: أراد بهذه الآية الصلاة بين المغرب والعشاء، وقال عطاء وأبو سلمة أراد صلاة العشاء الآخرة، وقال أبو محمد: وكانت الجاهلية ينامون من أول المغرب ومن أي وقت شاء الإنسان فجاء انتظار وقت العشاء الآخرة غريباً شاقاً، وقال أنس بن مالك أيضاً: أراد انتظار العشاء الآخرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل وفي ذلك أحاديث كثيرة، وقال الضحاك: "تجافي الجنب" هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة وهذا قول حسن يساعده لفظ الآية، وقال الجمهور من المفسرين: أراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل.
قال الفقيه الإمام القاضي: وعلى هذا التأويل أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح، وفيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قيام الليل ثم يستشهد بالآية، ذكره الطبري عن معاذ بن جبل، ورجح الزجاج هذا القول بأنهم جزوا بإخفاء فدل ذلك على أن العمل إخفاء أيضاً وهو قيام الليل، وقوله { يدعون } يحتمل أن يكون في موضع الحال من الموصوفين، أي في وقت التجافي، ويحتمل أن يكون صفة مستأنفة، أي { تتجافى جنوبهم } وهم أيضاً في كل أحوالهم { يدعون } ليلهم ونهارهم. و"الخوف" من عذاب الله، و"الطمع" في ثواب الله. و{ ينفقون } قيل معناه الزكاة المفروضة وقيل النوافل والصدقات غير المفروضة وهذا القول أمدح، ثم ذكر تعالى وعدهم من النعيم بما لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك، وقرأ حمزة وحده "أخفي" بسكون الياء كأنه قال أخفي أنا وهي قراءة الأعمش، وروي عنه "ما أخفيت لهم من قرة أعين"، وقرأ عبد الله "ما نُخفي لهم" بالنون مضمومة، وروى المفضل عن الأعمش "ما يُخفَى لهم" بالياء المضمومة وفتح الفاء، وقرأ محمد بن كعب "ما أَخفى" بفتح الهمزة، أي ما أخفى الله، وقرأ جمهور الناس "أُخفيَ" بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول، و { ما } يحتمل أن تكون بمعنى الذي، فعلى القراءة الأولى فثم ضمير محذوف تقديره أخفيه، وعلى قراءة الجمهور فالضمير الذي لم يسم فاعله يجري في العودة على الذي، ويحتمل أن تكون استفهاماً، فعلى القراءة الأولى فهي في موضع نصب بـ"أخفي" وعلى القراءة الثانية هي في موضع رفع بالابتداء، و { قرة أعين } ما تلذه وتشتهيه وهي مأخوذة من القر كما أن سخنة العين مأخوذة من السخانة، وأصل هذا فيما يزعمون أن دمع الفرح بارد ودمع الحزن سخن، وفي معنى هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل:
"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" . واقرؤوا إن شئتم: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين }.
وقال ابن مسعود: "في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قلب بشر". وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة وأبو الدرداء "قرات" على الجمع، وقوله { جزاء بما كانوا يعملون } أي بتكسبهم، وقوله تعالى: { أفمن كان مؤمناً } الآية، روي عن عطاء بن يسار أنها نزلت في علي بن أبي طالب: والوليد بن عقبة بن أبي معيط وذلك أنهما تلاحيا فقال له الوليد: أنا أبسط منك لساناً وأحد سناناً وأرد للكتيبة، فقال له علي بن أبي طالب: اسكت فإنك فاسق، فنزلت الآية.
وذكر الزجاج والنحاس وغيرهما أنها نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط، وعلى هذا يلزم أن تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدينة وإنما قتل في طريق مكة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، ويعترض القول الآخر بإطلاق اسم الفسق على الوليد وذلك يحتمل أن يكون في صدر إسلام الوليد لشيء كان فيه أو لما روي من نقله عن بني المصطلق ما لم يكن حتى نزلت فيه
{ { إن جاءكم فاسق بنبأ } } [الحجرات: 6] ويحتمل أيضاً أن تطلق الشريعة ذلك عليه لأنه كان على طرف مما يبغي وهو الذي شرب الخمر في خلافة عثمان وصلى الصبح بالناس أربعاً ثم التفت وقال: أتريدون أن أزيدكم ونحو هذا مما يطول ذكره. ثم قسم الله تعالى المؤمنين والفاسقين الذين فسقهم بالكفر لأن التكذيب الذي في آخر الآية يقتضي ذلك، وقرأ طلحة "جنة" بالإفراد، وقرأ أبو حيوة "نزْلاً" بإسكان الزاي، والجمهور على ضمها وسائر باقي الآية بين.