هذه ابتداء مخاطبة في معنى توحيد الله تعالى وتبيين علامات ذلك، وآيات الله: تعم آيات قدرته
وآيات قرآنه والمعجزات الظاهرة على أيدي رسله. وتنزيل الرزق: هو في تنزيل المطر وفي تنزيل القضاء
والحكم، قيل ما يناله المرء في تجارة وغير ذلك وقرأ جمهور الناس: "ويُنْزِل" بالتخفيف. وقرأ الحسن
والأعرج وعيسى وجماعة: "وينَزِّل" بفتح النون وشد الزاي.
وقوله تعالى: { وما يتذكر إلا من ينيب } معناه: وما يتذكر تذكراً يعتد به وينفع صاحبه، لأنا نجد من لا ينيب يتذكر، لكن لما كان ذلك غير نافع عد كأنه لم يكن.
وقوله: { فادعوا الله } مخاطبة للمؤمنين أصحاب محمد عليه السلام. "وادعوا": معناه: اعبدوا.
وقوله تعالى: { رفيع الدرجات } صفاته العلى، وعبر بما يقرب لأفهام السامعين، ويحتمل أن يريد بـ { رفيع الدرجات } التي يعطيها للمؤمنين ويتفضل بها على عباده المخلصين في جنة. و: { العرش } هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السماوات السبع والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض.
وقوله تعالى: { يلقي الروح } قال الضحاك: { الروح } هنا هو الوحي القرآن وغيره مما لم يتل.
وقال قتادة والسدي: { الروح } النبوءة ومكانتها كما قال تعالى: { { روحاً من أمرنا } [الشورى: 52]
ويسمى هذا روحاً لأنه يحيي به الأمم والأزمان كما يحيي الجسد بروحه، ويحتمل أن يكون إلقاء الروح
عاماً لكل ما ينعم الله به على عباده المعتدين في تفهيمه الإيمان والمعتقدات الشريفة. والمنذر على هذا
التأويل: هو الله تعالى. قال الزجاج: { الروح }: كل ما به حياة الناس، وكل مهتد حي، وكل ضال
كالميت.
وقوله: { من أمره } إن جعلته جنساً للأمور فـ { من } للتبعيض أو لابتداء الغاية، وإن جعلنا الأمر من
معنى الكلام: فـ { من } إما لابتداء الغاية، وإما بمعنى الباء، ولا تكون للتبعيض بتة وقرأ أبي بن كعب:
وجماعة: "لينذِر" بالياء وكسر الذال، وفي الفعل ضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى، ويحتمل أن يعود
على { الروح }، ويحتمل أن يعود على { من } في قوله: { من يشاء }. وقرأ محمد بن السميفع اليماني:
"لينذَر" بالياء وفتح الذال، وضم الميم من "يومُ" وجعل اليوم منذراً على الاتساع. وقرا جمهور الناس:
"لتنذر" بالتاء على مخاطبة محمد عليه السلام، ويومَ" بالنصب.
وقرأ أبو عمرو ونافع وجماعة: "التلاق" دون ياء. وقرأ أبو عمرو أيضاً وعيسى ويعقوب: "التلاقي"
بالياء، والخلاف فيها كالخلاف الذي مر في { { التنادي } [غافر: 32]، ومعناه: تلاقي جميع العالم بعضهم
ببعض، وذلك أمر لم يتفق قبل ذلك اليوم، وقال السدي: معناه: تلاقي أهل السماء وأهل الأرض، وقيل
معناه تلاقي الناس مع بارئهم، وهذا المعنى الأخير هو أشدها تخويفاً، وقيل يلتقي المرء وعمله.
وقوله تعالى: { يوم هم بارزون } معناه في براز من الأرض ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي،
ونصب { يوم } على البدل من الأول فهو نصب المفعول، ويحتمل أن ينصب على الظرف ويكون العامل
فيه قوله: { لا يخفى } وهي حركة إعراب لا حركة بناء، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن
كيومئذ، وكقول الشاعر [النابغة الذبياني]: [الطويل]
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألمّا أصحُ والشيب وارع
وكقوله تعالى: { { هذا يوم ينفع الصادقين } [المائدة: 119] وأما في هذه الآية فالجملة أمر متمكن
كما تقول: جئت يوم زيد فلا يجوز البناء، وتأمل.
وقوله تعالى: { لا يخفى على الله منهم } أي من بواطنهم وسرائرهم ودعوات صدورهم، وفي
مصحف أبي بن كعب: "لا يخفى عليه منهم شيء" بضمير بدل المكتوبة.
وقوله تعالى: { لمن الملك اليوم } روي أن الله تعالى يقرر هذا التقدير ويسكت العالم هيبة وجزعاً،
فيجيب هو نفسه قوله: { لله الواحد القهار } قال الحسن بن أبي الحسن هو تعالى السائل وهو المجيب.
وقال ابن مسعود: أنه تعالى يقرر فيجيب العالم بذلك، وقيل ينادي بالتقرير ملك فيجيب الناس.
قال القاضي أبو محمد: وإذا تأمل المؤمن أنه لا حول لمخلوق ولا قوة إلا بالله، فالزمان كله وأيام
الدهر أجمع إنما الملك فيها { لله الواحد القهار }، لكن ظهور ذلك للكفرة والجهلة يتضح يوم القيامة،
وإذا تأمل تسخير أهل السماوات وعبادتهم ونفوذ القضاء في الأرض فأي ملك لغير الله عز وجل.
ثم يعلم تعالى أهل الموقف بأنه يوم المجازاة بالأعمال صالحها وسيئها، وهذه الآية نص في أن
الثواب والعقاب معلق باكتساب العبيد، وأنه يوم لا يوضع فيه أمر غير موضعه، وذلك قوله: { لا ظلم
اليوم }. ثم أخبرهم عن نفسه بسرعة الحساب، وتلك عبارة عن إحاطته بالأشياء علماً، فهو يحاسب
الخلائق في ساعة واحدة كما يرزقهم، لأنه لا يحتاج إلى عد وفكرة، لا رب غيره، وروي أن يوم القيامة لا
ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار.