خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
١٢٤
فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢٥
-الأنعام

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه الآية آية ذم للكفار وتوعد لهم، يقول وإذا جاءتهم علامة ودليل على صحة الشرع تشططوا وتسحبوا وقالوا إنما يقلق لنا البحر إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك، فرد الله عز وجل عليهم بقوله: { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } أي فيمن اصطفاه وانتخبه لا فيمن كفر وجعل يتشطط على الله، قال الزجاج: قال بعضهم: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل المبعث مطاعين في قومهم، و { أعلم } معلق العمل، والعامل في { حيث } فعل تقديره: يعلم حيث، ثم توعد تعالى بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار وذلة، و { عند الله } متعلقة بـ { سيصيب } ، ويصح أن تتعلق بـ { صغاراً } لأنه مصدر، قال الزجّاج: التقدير صغار ثابت عند الله، قال أبو علي: وهو متعلق بـ { صغار } دون تقدير ثابت ولا شيء غيره، وقوله تعالى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام }، الآية، "من" أداة شرط، و { يشرح } جواب الشرط، والآية نص في أن الله عز وجل يريد هدى المؤمن وضلال الكافر، وهذا عند جميع أهل السنة بالإرادة القديمة التي هي صفة ذاته تبارك وتعالى، و "الهدى" في هذه الآية هو خلق الإيمان في القلب واختراعه، و "شرح الصدر" هو تسهيل الإيمان وتحبيبه وإعداد القلب لقبوله وتحصيله، والهدى لفظة مشتركة تأتي بمعنى الدعاء كقوله عز وجل: { { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [الشورى:52] وتأتي بمعنى إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق والأعمال المقصية إليها، كقوله تعالى: { { فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم } [محمد:5] وغير ذلك، إلا أنها في هذه الآية وفي قوله { { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } } [الأعراف:178]، وفي قوله { { إنك لا تهدي من أحببت } [القصص:56] ونحوها لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان واختراعه، إذ الوجوه من الهدى تدفعها قرائن الكلام مما قبل وبعد، وقوله { يشرح صدره } ألفاظ مستعارة ها هنا إذ الشرح التوسعة والبسط في الأجسام وإذا كان الجرم مشروحاً موسعاً كان معداً ليحل فيه، فشبه توطئة القلب وتنويره وإعداده للقبول بالشرح والتوسيع، وشبه قبوله وتحصيله للإيمان بالحلول في الجرم المشروح، و "الصدر" عبارة عن القلب وهو المقصود هنا الإيمان فقط بدليل قرينة الشرح والهدى، ولكنه عبر بالإسلام إذ هو أعم وأدنى الهدى حب الأعمال وامتثال العبادات، وفي { يشرح } ضمير عائد على الهدى، قال: وعوده على الله عز وجل أبين.
قال القاضي أبو محمد: والقول بأن الضمير عائد على المهدي قول يتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأفعال وينبغي أن يعتقد ضعفه وأن الضمير إنما هو عائد على اسم الله عز وجل فإن هذا يعضده اللفظ والمعنى، وروي عن النبي عليه السلام أنه لما نزلت هذه الآية، "قالوا يا رسول الله، كيف يشرح الصدر؟ قال:
" "إذا نزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح، قالوا وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال: نعم: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الفوت" . والقول في قوله { ومن يرد أن يضله } كالقول في قوله { فمن يرد الله أن يهديه } ، وقوله { يجعل صدره ضيقاً حرجاً } ألفاظ مستعارة تضاد شرح الصدر للإسلام ويجعل في هذا الموضع تكون بمعنى يحكم له بهذا الحكم، كما تقول هذا يجعل البصرة مصراً أي يحكم لها بحكمها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى يقرب من صير، وحكاه أبو علي الفارسي، وقال أيضاً يصح أن يكون "جعل" بمعنى سمى، كما قال تعالى
{ { وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً } } [الزخرف:19] أي سموهم، قال وهذه الآية تحتمل هذا المعنى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الوجه يضعف في هذه الآية، وقرأ جمهور الناس والسبعة سوى ابن كثير " ضيِّقاً " بكسر الياء وتشديدها، وقرأ ابن كثير "ضيْقاً" بسكون الياء وكذلك قرأ في الفرقان، قال أبو علي وهما بمنزلة الميِّت والميْت، قال الطبري وبمنزلة الهيِّن والليِّن والهيْن والليْن، قال ويصح أن يكون الضيق مصدراً من قولك ضاق والأمر يضيق ضيقاً وضيقاً، وحكي عن الكسائي أنه قال الضِّيق بشد الضاد وكسرها في الأجرام والمعاش، والضَّيِق بفتح الضاد: في الأمور والمعاني، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي "حرَجاً" بفتح الراء وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر "حرِجاً" بكسرها، قال أبو علي فمن فتح الراء كان وصفاً بالمصدر كما تقول رجل قمَن بكذا وحرَى بكذا ودنَف، ومن كسر الراء فهو كدِنف وقمِن وفرِق، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها يوماً بفتح الراء فقرأها له بعض الصحابة بكسر الراء، فقال: ابغوني رجلاً من كنانة وليكن راعياً من بني مدلج، فلما جاءه قال له: يا فتى ما الحرجة عندكم، قال: الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية.
قال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير، وقوله تعالى: { كأنما يصعد في السماء } أي كأن هذا الضيق الصدر يحاول الصعود في السماء حتى الإيمان أو فكر فيه ويجد صعوبته عليه كصعوبة الصعود في السماء، قال بهذا التأويل ابن جريج وعطاء الخراساني والسدي، وقال ابن جبير: المعنى لا يجد مسلطاً إلا صعداً من شدة التضايق، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي "يصعد" بإدغام التاء من يتصعد في الصاد، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر "يصّاعد" بإدغام التاء من يتصاعد في السماء، وقرأ ابن كثير وحده "يصعد"، وقرأ ابن مسعود والأعمش وابن مصرف "يتصعد" بزيادة تاء، و { في السماء } يريد من سفل إلى علو في الهواء، قال أبو علي: ولم يرد السماء المظلة بعينها، وإنما هو كما قال سيبويه والقيدود: الطويل في غير سماء، يريد في غير ارتفاع صعداً قال ومن هذا قوله عز وجل:
{ { قد نرى نقلب وجهك في السماء } [البقرة:144] أي في وجهة الجو.
قال القاضي أبو محمد: وهذا على غير من تأول تقلب الوجه أنه الدعاء إلى الله عز وجل في الهداية إلى قبلة فإن مع الدعاء يستقيم أن يقلب وجهه في السماء المظلة حسب عادة الداعين إذ قد ألفوا مجيء النعم والالآء من تلك الجهة، وتحتمل الآية أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها الهواء، و { يصعد } معناه يعلو، و { يصعد } معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه. ومنه قول عمر بن الخطاب:
"ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح"، إلى غير ذلك من الشواهد، "ويصاعد" في المعنى مثل "يصعد" وقوله تعالى: { كذلك يجعل الله الرجس } أي وكما كان هذه كله من الهدى والضلال بإرادة الله عز وجل ومشيئته كذلك يجعل الله الرجس، قال أهل اللغة { الرجس } يأتي بمعنى العذاب ويأتي بمعنى النجس، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: { الرجس } كل ما لا خير فيه وقال بعض الكوفيين: الرجس والنجس لغتان بمعنى، "ويجعل" في هذا الموضع يحسن أن تكون بمعنى يلقي كما تقول جعلت متاعك بعضه على بعض، وكما قال عز وجل
{ { ويجعل الخبيث بعضه على بعض } [الأنفال:37].
قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى في جعل حكاه أبو علي الفارسي، ويحسن أن تكون { يجعل } في هذه الآية بمعنى يصير ويكون المفعول الثاني في ضمن { على الذين لا يؤمنون } ، كأنه قال قرين الدين أو لزيم الذين ونحو ذلك.