خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِي ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فِي ٱلأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى ٱئْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٧١
-الأنعام

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المعنى: قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله، والدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئاً موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل { ما لا ينفعنا ولا يضرنا } يعني الأصنام، إذ هي جمادات حجارة وخشب ونحوه، وضرر الأصنام في الدين لا يفهمه الكفار فلذلك قال: { ولا يضرنا } إنما الضرر الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنياوية، { ونرد على أعقابنا } تشبيه، وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون الإنسان يمشي قدماً وهي المشية الجيدة فيرد يمشي القهقرى، وهي المشية الدنية فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر ووقعت في هذه الآية في تمثيل الراجع من الهدي إلى عبادة الأصنام، و { هدانا } بمعنى أرشدنا، قال الطبري وغيره الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمراً فخاب أمله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول قلق وقوله تعالى: { كالذي استهوته الشياطين } الآية الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رداً كرد الذي و { استهوته } استفعلته بمعنى استدعت هواه وأمالته، قال أبو عبيدة: ويحتمل هويه وهو جده وركوب رأسه في النزوع إليهم، والهوى من هوى يهوي يستعمل في السقوط من علو إلى أسفل، ومنه قول الشاعر:

هوى ابْنِي مِنْ دَار أشرف فَزَلَّتْ رِجُلُهُ ويَدُه

وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة، وقد ذهب إليه أبو علي وقال: هو بمعنى أهوى كما أن استزل بمعنى أزل.
قال القاضي أبو محمد: والتحرير: أن العرب تقول: هوى وأهواه غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي شيئاً، ويستعمل الهوى أيضاً في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى:
{ { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } [إبراهيم:37]، ومنه قول شاعر الجن: [السريع]

تهوي إلى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى ما مؤمنُ الجِنّ كأنجاسِها

وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية، وقرأ الجمهور من الناس "استهوته الشياطين" وقرأ الحسن "استهوته الشياطون". وقال بعض الناس: هو لحن، وليس كذلك بل هو شاذ قبيح وإنما هو محمول على قولهم، سنون وأرضون إلا أن هذه في جمع مسلم وشياطون في جمع مكسر فهذا موضع الشذوذ، وقرأ حمزة "استهواه الشياطين" وأمال استهواه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة "استهويه الشيطان" بالياء وإفراد الشيطان، وذكر الكسائي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، وقوله: { في الأرض } يحكم بأن { استهوته } إنما هو بمعنى استدعت هويه الذي هو الجد في النزوع و { حيران } في موضع الحال، ومؤنثه حيرى فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، ومعناه ضالاً متحيراً وهو حال من الضمير في { استهوته } والعامل فيه { استهوته } ، ويجوز أن يكون من الذي والعامل فيه المقدر بعد الكاف، وقوله { استهوته } يقتضي أنه كان على طريق فاستدعته.
قال القاضي أبو محمد: فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون بعد الهدي نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتداداً على العقب فيكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائراً وقوله: { وله أصحاب } يحتمل أن يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولاً يدعونه إلى الهدى بزعمهم وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده، وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضاً، و { ائتنا } من الإتيان بمعنى المجيء، وفي مصحف عبد الله "إلى الهدي بيناً" وهذه تؤيد تأويل من تأول الهدى حقيقة إخبار من الله، حكى مكي وغيره أن المراد بـ "الذي" في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق و بـ "الأصحاب" أبوه وأمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت قول قائل: إن قوله تعالى:
{ { والذي قال لوالديه أف لكما } [الأحقاف:17] نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالت: كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي.
قال القاضي أبو محمد: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول: من نازع أحداً من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: { ائتنا }، ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد عن الطريق الواضح أكثر ليرد هذا الزائغ فهو يخاف عليه أن يضل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا انتزاع حسن جداً، وقوله تعالى: { قل إن هدى الله } الآية، من قال إن "الأصحاب" هم من الشياطين المستهزئين وتأول إلى الهدى بزعمهم قال: إن قوله: { قل إن هدى الله هو الهدى } رد عليهم في زعمهم فليس ما زعموه صحيحاً وليس بهدي بل هو نفسه كفر وضلال، وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان، ومن قال: إن "الأصحاب" هم على الطريق المدعو إليها وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم وإن الهدى هو هدى على حقيقته يجيء على قوله: { قل إن هدى الله } بمعنى أن دعاء الأصحاب وإن كان إلى هدى فليس بنفس دعائهم تقع الهداية وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله تعالى بهداه، { وأمرنا لنسلم } اللام لام كي ومعها أن مقدرة ويقدر مفعول لـ { أمرنا } مضمر تقديره وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان ونحو هذا، فتقدير الجملة كلها وأمرنا بالإخلاص لأن نسلم، ومذهب سيبويه في هذه أن { لنسلم } هو موضع المفعول وأن قولك: أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر: [الطويل]

أردت لأنسى ذكرها

إلى غير ذلك من الأمثلة، "ونسلم" يعم الدين والاستسلام.