خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً
٣٢
كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً
٣٣
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً
٣٤
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً
٣٥
وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً
٣٦
-الكهف

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { واضرب لهم مَثَلاً رجلين } روى عطاء عن ابن عباس، قال: هما ابنا ملك كان في بني إِسرائيل توفِّي وتركهما، فاتخذ أحدهما الجِنان والقصور، وكان الآخر زاهداً في الدنيا، فكان إِذا عمل أخوه شيئاً من زينة الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدَّمه لآخرته، حتى نَفِد ماله، فضربهما الله عز وجل مثلاً للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن المسلم لما احتاج، تعرَّض لأخيه الكافر، فقال الكافر: أين ما ورثتَ عن أبيك؟ فقال: أنفقتُه في سبيل الله، فقال الكافر: لكني ابتَعت به جِناناً وغنماً وبقراً، والله لا أعطيتك شيئاً أبداً حتى تتبع ديني، ثم أخذ بيد المسلِم فأدخله جِنانه يطوف به فيها، ويرغِّبه في دينه. وقال مقاتل: اسم المؤمن يمليخا، واسم الكافر قرطس، وقيل: قطرس، وقيل: هذا المَثَل [ضُرِبَ] لعيينة بن حصن وأصحابه، ولسلمان وأصحابه.

قوله تعالى: { وحففناهما بنخل } الحَفّ: الإِحاطة بالشيء، ومنه قوله: { { حافِّين من حول العرش } [الزمر: 75]. والمعنى: جعلنا النخل مُطِيفاً بها. وقوله: { وجعلنا بينهما زرعاً } إِعلام أن عمارتهما كاملة.

قوله تعالى: { كِلتا الجنتين آتت أُكُلَها } قال الفراء: لم يقل: آتتا، لأن «كلتا» ثنتان لا تُفرد واحدتُهما، وأصله: «كُلٌّ»، كما تقول للثلاثة: «كُلٌّ»، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب «كُلّ»، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في «كلتا»، وكذلك فافعل بـ «كلا» و«كلتا» و«كُلّ»، إِذا أضفتَهُنَّ إِلى مَعْرِفة وجاء الفعل بعدهن، فوحِّد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى: { وكُلُّهم آتيه يوم القيامة فرداً } [مريم: 96]، ومن الجمع: { وكُلٌّ أَتَوه داخرين } [النمل: 87]، والعرب قد تفعل ذلك أيضاً في «أي» فيؤنّثون ويذكِّرون، قال الله تعالى: { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [لقمان: 34]، ويجوز في الكلام «بأيت أرض»، وكذلك { { في أيِّ صورة ما شاء ركبَّك } [الانفطار: 8]، ويجوز في الكلام «في أيَّت»، قال الشاعر:

بأي بلاءٍ أم بأيَّة نعمةٍ تقدَّم قبلي مسلمٌ والمهلَّب

قال ابن الأنباري: «كلتا» وإِن كان واقعاً في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقةً بمعرفة المخاطَب به؛ ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ، فيقول: «كلتا الجنتين آتت أُكُلَها»، ويقول آخرون: «كلتا الجنتين آتى أُكُلَه»، لأن «كلتا» تفيد معنى «كُلّ»، قال الشاعر:

وكلتاهما قد خطَّ لي في صَحيفتي فلا الموت أهواه ولا العيش أروح

يعني: وكلُّهما قد خط لي، وقد قالت العرب: كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون. فوحَّدوا لِلَفظ «كُلّ» وجمعوا لتأويلها. وقال الزجاج: لم يقل «آتتا»، لأن لفظ «كلتا» لفظ واحدة، والمعنى: كل واحدة منهما آتت أكلها { ولم تظلم } أي: لم تنقص { منه شيئاً وفجرنا خلالهما نَهَراً } فأعلمَنَا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب. وقال الفراء: إِنما قال: «فجَّرنا» بالتشديد، وهو نَهَر واحد، لأن النهر يمتد، فكان التفجُّر فيه كلِّه. قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: «وفَجَرْنا» بالتخفيف. وقرأ أبو مجلز، وأبو المتوكل: «خلِلهما». وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: «نهْراً» بسكون الهاء.

قوله تعالى: { وكان له } يعني: للأخ الكافر { ثَمَر } قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «وكان له ثُمُر»، «وأُحيط بثُمُره» بضمتين. وقرأ عاصم: «وكان له ثَمَر»، «وأُحيط بثَمَره» بفتح التاء والميم فيهما. وقرأ أبو عمرو: «ثُمْر» و«بثُمْره» بضمة واحدة وسكون الميم. قال الفراء: الثَّمَر، بفتح الثاء والميم: المأكول، وبضمها: المال. وقال ابن الأنباري: الثَّمر، بالفتح: الجمع الأول، والثُّمُر، بالضم: جمع الثَّمَر، يقال: ثَمَر، وثُمُر، كما يقال: أسَد، وأُسُد، ويصلح أن يكون الثُّمُر جمع الثِّمار، كما يقال: حِمار وحُمُر، وكِتاب وكُتُب؛ فمن ضَمَّ، قال: الثُّمُر أعم، لأنها تحتمل الثمار المأكولة، والأموال المجموعة. قال أبو علي الفارسي: وقراءة أبي عمرو: «ثُمُر» يجوز أن تكون جمع ثمار، ككتاب، وكُتُب، فتخفف، فيقال: كُتْب، ويجوز أن يكون «ثُمْر» جمع ثَمَرة، كبَدَنة وبُدْن، وخَشَبة، وخُشْب. ويجوز أن يكون { ثُمُر } واحداً، كعُنُق، وطُنُب.

وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه الذهب، والفضة، قاله مجاهد.

والثالث: أنه جمع ثمرة، قال الزجاج: يقال: ثَمَرة، وثِمار، وثمر.

فإن قيل: ما الفائدة في ذِكْر الثّمر بعد ذِكْر الجنَّتين، وقد عُلم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر؟ فعنه ثلاثة أجوبة.

أحدها: أنه لم يكن أصل الأرض ملكاً له، وإِنما كانت له الثمار، قاله ابن عباس.

والثاني: أن ذِكْر الثّمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنّتين وغيرهما، ذكره ابن الأنباري.

والثالث: إِنا قد ذكرنا أن المراد بالثمر الأموال من الأنواع، وذكرنا أنها الذهب، والفضّة، وذلك يخالف الثمر المأكول؛ قال أبو علي الفارسي: من قال: هو الذهب، والوَرِق، فإنما قيل لذلك: ثُمُر على التفاؤل، لأن الثمر نماء في ذي الثمر، وكونه هاهنا بالجَنى أشبه من الذهب والفضة. ويقوي ذلك: { وأحيط بثمره فأصبح يقلِّب كفَّيه على ما أنفق فيها }، والإِنفاق من الوَرِق، لا من الشجر.

قوله تعالى: { فقال } يعني الكافر { لصاحبه } المؤمن { وهو يحاوره } أي: يراجعه الكلام ويجاوبه.

وفيما تحاورا فيه قولان.

أحدهما: أنه الإِيمان والكفر.

والثاني: طلب الدنيا، وطلب الآخرة. فأما «النفر» فهم الجماعة، ومثلهم: القوم والرهط، [ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها. وقال ابن فارس اللغوي]: النفر: عدة رجال من ثلاثة إِلى العشرة.

وفيمن أراد بنَفَره ثلاثة أقوال.

أحدها: عبيده، قاله ابن عباس.

والثاني: ولده، قاله مقاتل.

والثالث: عشيرته ورهطه، قاله أبو سليمان.

قوله تعالى: { ودخل جنَّته } يعني: الكافر { وهو ظالم لنفسه } بالكفر؛ وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه، { قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً } أنكر فَناء الدنيا، وفَناء جنته، وأنكر البعث والجزاء بقوله: { وما أظن الساعة قائمةً } وهذا شك [منه] في البعث، ثم قال: { ولئن رُدِدْتُ إِلى ربِّي } أي: كما تزعُم أنت. قال [ابن عباس]: يقول: إِن كان البعث حقاً { لأجدنَّ خيراً منها } قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «خيراً منها»، وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «خيراً منهما» بزيادة ميم على التثنية، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والمدينة والشام. قال أبو علي: الإِفراد أولى، لأنه أقرب إِلى الجَنَّة المفردة في قوله: { ودخل جنته }، والتثنية لا تمتنع، لتقدم ذِكْر الجَنَّتين.

قوله تعالى: { مُنْقَلَباً } أي: كما أعطاني هذا في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه.