خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً
٢٢
فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً
٢٣
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً
٢٤
وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً
٢٥
فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً
٢٦
-مريم

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { فحملته } يعني: عيسى.

وفي كيفية حملها له قولان.

أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب دِرعها، فاستمرَّ بها حملها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال السدي: نفخ في جيب درعها وكان مشقوقاً من قُدَّامها، فدخلت النفخة في صدرها فحملت من وقتها.

والثاني: الذي خاطبها هو الذي حملته، ودخل مِنْ فيها، قاله أُبيّ بن كعب.

وفي مقدار حَمْلها سبعة أقوال.

أحدها: أنها حين حملت وضعت، قاله ابن عباس، والمعنى: أنه ما طال حملها، وليس المراد أنها وضعته في الحال، لأن الله تعالى يقول: { فحملته فانتبذت به }، وهذا يدل على أن بين الحمل والوضع وقتاً يحتمل الانتباذ به.

والثاني: أنها حملته تسع ساعات، ووضعت من يومها، قاله الحسن.

والثالث: تسعة أشهر، قاله سعيد بن جبير، وابن السائب.

والرابع: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصوِّر في ساعة، ووضعته في ساعة، قاله مقاتل بن سليمان.

والخامس: ثمانية أشهر، فعاش، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر، فكان في هذا آية، حكاه الزجاج.

والسادس: في ستة أشهر، حكاه الماوردي.

والسابع: في ساعة واحدة، حكاه الثعلبي.

قوله تعالى: { فانتبذت به } يعني بالحَمْل { مكاناً قصيّاً } أي: بعيداً. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: { قاصياً }. قال ابن إِسحاق: مشت ستة أميال. قال الفراء: القصيّ والقاصي بمعنى واحد. وقال غير الفراء: القصيّ والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد. وإِنما بَعُدت، فراراً من قومها أن يعيِّروها بولادتها من غير زوج.

قوله تعالى: { فأجاءها المَخاض } وقرأ عكرمة، وإِبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري: «المِخاض» بكسر الميم. قال الفراء: المعنى: فجاء بها المخاض، فلما أُلقيت الباء، جُعلت في الفعل ألفاً، ومثله: { { آتنا غداءنا } [الكهف: 62] أي: بغدائنا، ومثله: { { آتوني زُبَر الحديد } [الكهف: 96] أي: بزبر الحديد. قال أبو عبيدة: أفعلها من جاءت هي، وأجاءها غيرها. وقال ابن قتيبة: المعنى: جاء بها، وألجأها، وهو من حيث يقال: جاءت بي الحاجة إِليك، وأجاءَتني الحاجة إِليك، والمَخاض: الحمل. وقال غيره: المخاض: وجع الولادة. { إِلى جِذع النخلة } وهو ساق النخلة، وكانت نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا سعف. { قالت يا ليتني مُتُّ قبل هذا } اليوم، أو هذا الأمر. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: «مِتُّ» بكسر الميم.

وفي سبب قولها هذا قولان.

أحدهما: أنها قالته حياءً من الناس.

والثاني: لئلا يأثموا بقذفها.

قوله تعالى: { وكنتُ نسياً منسيّاً } قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، بكسر النون، وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «نَسياً» بفتح النون. قال الفراء: وأصحاب عبد الله يقرؤون: «نَسياً» بفتح النون، وسائرالعرب بكسرها، وهما لغتان، مثل الجَسر والجِسر، والوَتر والوِتر، والفتح أحب إِليَّ. قال أبو علي الفارسي: الكسر على اللغتين. وقال ابن الأنباري: من كسر النون قال: النِسي: اسم لما يُنسى، بمنزلة البِغض اسم لما يُبْغَض، والسِّب اسم لما يُسَب. والنَسي بفتح النون: اسم لما يُنسى أيضاً على أنه مصدر ناب عن الاسم، كما يقال: الرجل دَنِف ودَنَف. فالمكسور: هو الوصف الصحيح، والمفتوح: مصدر سدَّ مسدَّ الوصف. ويمكن أن يكون النِسي والنَسي اسمين لمعنىً، كما يقال: الرِّطل والرَّطل.

وللمفسرين في قوله تعالى: { نسياً منسيّاً } خمسة أقوال.

أحدها: يا ليتني لما أكن شيئاً، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد.

والثاني: «وكنت نسياً منسيّاً» أي: دم حيضة ملقاة، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة. قال الفراء: النّسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها. وقال ابن الأنباري: هي خرق الحيض تلقيها المرأة فلا تطلبها ولا تذكرها.

والثالث: [أنه من] السقط، قاله أبو العالية، والربيع.

والرابع: أن المعنى: يا ليتني لا يُدرى من أنا، قاله قتادة.

والخامس: أنه الشيء التافه يرتحل عنه القوم، فيهون عليهم فلا يرجعون إِليه، قاله ابن السائب. وقال أبو عبيدة: النِسي، والمنسي: ما ينسى من إِداوة وعصا. يعني أنه ينسى في المنزل، فلا يرجع إِليه لاحتقار صاحبه إِياه. وقال الكسائي: معنى الآية: ليتني كنت ما إِذا ذُكر لم يُطلب.

قوله تعالى: { فناداها من تحتها } قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «مَن تحتها» بفتح الميم، والتاء. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «مِن تحتها» بكسر الميم، والتاء. فمن قرأ بكسر الميم، ففيه وجهان.

أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة. وقيل: كانت على نَشَز، فناداها الملك أسفل منها.

والثاني: ناداها عيسى لما خرج من بطنها. قال ابن عباس: كلُّ ما رفعت إِليه طرفك، فهو فوقك، وكلُّ ما خفضت إِليه طرفك، فهو تحتك. ومن قرأ بفتح الميم، ففيه الوجهان المذكوران. وكان الفراء يقول: ما خاطبها إِلا الملك على القراءتين جميعاً.

قوله تعالى: { قد جعل ربُّكِ تحتكِ سريّاً } فيه قولان.

أحدهما: أنه النهر الصغير، قاله جمهور المفسرين، واللغويون، قال أبو صالح، وابن جريج: هو الجدول بالسريانية.

والثاني: أنه عيسى كان سرياً من الرجال، قاله الحسن، وعكرمة، [وابن زيد]. قال ابن الأنباري: وقد رجع الحسن عن هذا القول إِلى القول الأول، ولو كان وصفاً لعيسى، كان غلاماً سرياً أو سوياً من الغلمان، وقلَّما تقول العرب: رأيت عندك نبيلاً، حتى يقولوا: رجلاً نبيلاً.

فإن قيل: كيف ناسب تسليتها أن قيل: لا تحزني، فهذا نهر يجري؟

فالجواب: من وجهين.

أحدهما: أنها حزنت لجدب مكانها الذي ولدت فيه، وعدمِ الطعام والشراب والماء الذي تتطهر به، فقيل: لا تحزني قد أجرينا لك نهراً، وأطلعنا لك رطباً، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أنها حزنت لِما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج، فأجرى الله تعالى لها نهراً، فجاءها من الأردنِّ، وأخرج لها الرَّطب من الشجرة اليابسة، فكان ذلك آية تدل على قدرة الله تعالى في إِيجاد عيسى، قاله مقاتل.

قوله تعالى: { وهزِّي إِليك } الهزُّ: التحريك.

والباء في قوله تعالى: { بجذع النخلة } فيها قولان.

أحدهما: أنها زائدة مؤكدة، كقوله تعالى: { { فليمدد بسبب إِلى السماء } [الحج: 15] قال الفراء: معناه: فليمدد سبباً. والعرب تقول: هزَّه، وهزَّ به، وخذ الخطام، وخذ بالخطام، وتعلَّق زيداً، وتعلَّق به. وقال أبو عبيدة: هي مؤكدة، كقول الشاعر:

نَضْرِبُ بالسَّيفِ ونرجو بالفرَج

والثاني: أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهزِّ، فهي مفيدة للالصاق، قاله ابن الأنباري.

قوله تعالى: { تساقط } قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تَسَّاقط» بالتاء مشددة السين. وقرأ حمزة، وعبد الوارث: «تَسَاقط» بالتاء مفتوحة مخففة السين. وقرأ حفص عن عاصم: «تُساقِط» بضم التاء وكسر القاف مخففة السين. وقرأ يعقوب، وأبو زيد عن المفضل: «يَسَّاقَط» بالياء مفتوجة وتشديد السين وفتح القاف. فهذه القراآت المشاهير. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو حيوة: «تَسْقُط» بفتح التاء وسكون السين ورفع القاف. وقرأ عبد الله بن عمرو، وعائشة، والحسن: «يُساقِط» بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف. وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار: «يُسْقِط» برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني مثله، إِلا أنه بالتاء. وقرأ معاذ القارىء، وابن يعمر مثله، إِلا أنه بالنون. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة: «يَسْقُط» بالياء مفتوحة مع سكون السين ورفع القاف. وقرأ أبو السماك العدوي، وابن حزام: «تتساقط» بتاءين مفتوحين وبألف. وقال الزجاج: من قرأ «يسَّاقط» فالمعنى: يتساقط، فأدغمت التاء في السين. ومن قرأ «تسَّاقط»، فكذلك أيضاً، وأنث لأن لفظ النخلة يؤنث. ومن قرأ «تساقط» بالتاء والتخفيف، فإنه حذف من «تتساقط» اجتماع التاءين. ومن قرأ «يُساقط» ذهب إِلى معنى: يُساقط الجذع عليك. ومن قرأ «نُساقط» بالنون، فالمعنى: نحن نُساقط عليك، فنجعله لك آية، والنحويون يقولون: إِن «رطباً» منصوب على التمييز إِذا قلت: يسَّاقط أو يتساقط، المعنى: يتساقط الجزع رطباً. وإِذا قلت: تسَّاقط بالتاء، فالمعنى: تتساقط النخلة رطباً.

قوله تعالى: { جَنِيّاً } قال الفراء: الجَنِيّ: المجتنى، وقال ابن الأنباري: هو الطريُّ، والأصل: مجنوٌّ، صُرف من مفعول إِلى فعيل، كما يقال: قديد، وطبيخ. وقال غيره: هو الطريّ بغباره: ولم يكن لتلك النخلة رأس، فأنبته الله تعالى، فلما وضعت يدها عليها، سقط الرطب رَطْباً. وكان السلف يستحبُّون للنفساء الرطب من أجل مريم عليها السلام.

قوله تعالى: { فكلي } أي: من الرطب { واشربي } من النهر { وقَرِّي عينا } بولادة عيسى عليه السلام. قال الزجاج: يقال: قَرِرت به عيناً أقَر، بفتح القاف في المستقبل، وقَرِرت في المكان أقر، بكسر القاف، و«عيناً»: منصوب على التمييز. وروى ابن الأنباري عن الأصمعي أنه قال: معنى «وقرِّي عيناً»، ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارَّة. واشتقاق «قرِّي» من القَرور، وهو الماء البارد. وقال لنا أحمد بن يحيى: تفسير «قرِّي عيناً» بلغتِ غاية أملك حتى تقرَّ عينك من الاستشراف إِلى غيره، واحتج بقول عمرو ابن كلثوم:

بيوم كريهةٍ ضرباً وطعناً أقرَّ به مواليك العيونا

أي: ظفروا وبلغوا منتهى أمنيتهم، فقرَّت عينهم من تطلّع إِلى غيره.

قوله تعالى: { فإما تَرَيِنّ } وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: «ترئِنَّ» بهمزة مكسورة من غير ياء. أي: إِن رأيتِ من البشر أحداً فقولي؛ وفيه إِضمار تقديره: فسألك عن أمر ولدك. { فقولي إِنِّي نذرتُ للرحمن صوماً } فيه قولان.

أحدهما: صمتاً، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، والضحاك؛ وكذلك قرأ أُبيّ بن كعب، وأنس بن مالك، وأبو رزين العقيلي: «صمتاً» مكان قوله: «صوماً». وقرأ ابن عباس: صياماً.

والثاني: صوماً عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان المجتهد من بني إِسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام، إِلا من ذِكْر الله عز وجل. قال السدي: فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت. قال ابن مسعود: أُمِرتْ بالصمت، لأنها لم تكن لها حُجَّة عند الناس، فأُمرتْ بالكفِّ عن الكلام ليكفيَها الكلامَ ولدُها مما يُبرِّىء به ساحتها. وقيل: كانت تُكلِّم الملائكة ولا تكلِّم الإِنس. قال ابن الأنباري: الصوم في لغة العرب على أربعة معانٍ، يقال: صوم لترك الطعام والشراب، وصوم للصمت، وصوم لضرب من الشجر، وصوم لذَرْق النعام.

واختلف العلماء في مقدار سنِّ مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال.

أحدها: أنها وَلَدت وهي بنت خمس عشرة سنة، قاله وهب بن منبِّه.

والثاني: بنت اثنتي عشرة سنة، قاله زيد بن أسلم.

والثالث: بنت ثلاث عشرة سنة، قاله مقاتل.