قوله تعالى: { لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانُكم } في سبب نزولها قولان.
أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَّه غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج بن عمرو إِلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر على حالة كره عمرُ رؤيتَه عليها، فقال: يا رسول الله، وددتُ لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أن أسماء بنت مرثد كان لها غلام، فدخل عليها في وقت كرهتْه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إِنَّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
ومعنى الآية: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم؛ وفيهم قولان.
أحدهما: أنه أراد الذكور دون الإِناث، قاله ابن عمر.
والثاني: الذكور والإِناث، رواه أبو حصين عن أبي عبد الرحمن. ومعنى الكلام: ليستأذنكم مماليككم في الدخول عليكم. قال القاضي أبو يعلى: والأظهر أن يكون المراد: العبيد الصغار والإِماء الصغار، لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته، فكيف يضاف إِلى الصبيان الذين هم غير مكلفين؟!
قوله تعالى: { والذين لم يبلغوا الحُلُم } وقرأ عبد الوارث: { الحُلْم } باسكان اللام { منكم } أي: من أحراركم من الرجال والنساء، { ثلاث مرات } أي: ثلاثة أوقات؛ ثم بيَّنها فقال: { من قبل صلاة الفجر } وذلك لأن الإِنسان قد يَبِيت عُرياناً، أو على حالة لا يحب أن يُطَّلع عليه فيها { وحين تضعون ثيابكم من الظَّهيرة } أي: القائلة { ومن بعد صلاة العشاء } حين يأوي الرجل إِلى زوجته. { ثلاثُ عَوْرات } قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: { ثلاثُ عورات } برفع الثاء من { ثلاث }، والمعنى: هذه الأوقات هي ثلاث عورات، لأن الإِنسان يضع فيها ثيابه، فربما بدت عورته. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: { ثلاثَ عورات } بنصب الثاء؛ قال أبو علي: وجعلوه بدلاً من قوله: { ثلاثَ مَرَّات } والأوقات ليست عورات، ولكن المعنى: أنها أوقات ثلاث عورات، فلما حذف المضاف أعرب [باعراب المحذوف]. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وسعيد بن جبير، والأعمش: { عَوَرات } بفتح الواو، { ليس عليكم } يعني: المؤمنين الأحرار { ولا عليهم } يعني: الخدم والغلمان { جُنَاح } أي: حرج { بَعْدَهُنَّ } أي: بعد مُضي هذه الأوقات، أن لا يستأذنوا. فرفع الحرج عن الفريقين، { طَوَّافُون عليكم } أي: هم طوافون عليكم { بعضُكم على بعض } أي: يطوف بعضكم وهم المماليك على بعض وهم الأحرار.
فصل
وأكثر علماء المفسرين على أن هذه الآية محكمة، وممن روي عنه ذلك ابن عباس، والقاسم بن محمد، وجابر بن زيد، والشعبي. وحكي عن سعيد بن المسيب أنها منسوخة بقوله: { وإِذا بلغ الأطفال منكم الحُلُم فليستأذِنوا }؛ والأول أصح، لأن معنى هذه الآية: وإِذا بلغ الأطفال منكم، أو من الأحرار الحلم، فليستأذنوا، أي: في جميع الأوقات في الدخول عليكم { كما استأذن الذين مِنْ قَبْلهم } يعني: كما استأذن الأحرار الكبار، الذين هم قبلهم في الوجود، وهم الذين أُمروا بالاستئذان على كل حال؛ فالبالغ يستأذن في كل وقت، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث.
قوله تعالى: { والقواعدُ من النِّساء } قال ابن قتيبة: يعني: العُجْزَ، واحدها: قاعدٌ، ويقال: إِنما قيل لها: قاعدٌ، لقعودها عن الحيض والولد، وقد تقعد عن الحيض والولد ومِثْلُها يرجو النكاح، ولا أُراها سميتْ قاعداً إِلا بالقعُود، لأنها إِذا أسَنَّتْ عجزتْ عن التصرُّف وكثرة الحركة، وأطالت القعود، فقيل لها: «قاعد» بلا هاء، ليدلّ حذف الهاء على أنه قعود كِبَر، كما قالوا: «امرأةٌ حاملٌ»، ليدلُّوا بحذف الهاء على أنه حمل حَبَل، وقالوا في غير ذلك: قاعدةٌ في بيتها، وحاملةٌ على ظَهرها.
قوله تعالى: { أن يَضَعْنَ ثيابهُنَّ } أي: عند الرجال؛ ويعني بالثياب: الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخِمار، هذا المراد بالثياب، لا جميع الثياب، { غيرَ متبرِّجاتٍ بزِينَةٍ } أي: من غير أن يُرِدْنَ بوضع الجِلباب أن تُرى زينتُهن، والتبرُّج: إِظهار المرأة محاسنها، { وأن يَسْتَعْفِفْنَ } فلا يَضَعْنَ تلك الثياب { خَيْرٌ لَهُنَّ }، قال ابن قتيبة: والعرب تقول: امرأةٌ واضعٌ: إِذا كبِرتْ فوضعت الخِمار، ولا يكون هذا إِلا في الهرِمة. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنه يُباح [للعجوز] كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال، وأما شعرها، فيحرم النظر إِليه كشعر الشابَّة.