خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً
١٨
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
١٩
يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً
٢٠
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً
٢١
وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً
٢٢
-الأحزاب

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { قد يَعْلَمُ اللّهُ المعوِّقين منكم } في سبب نزولها قولان.

أحدهما: أن رجلاً انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، فوجد أخاه لأُمِّه وابيه وعنده شِواءُ ونبيذٌ، فقال له: أنتَ هاهنا ورسولُ الله بين الرِّماح والسيوف؟! فقال: هلمَّ إِليَّ، لقد أُحيطَ بك وبصاحبك؛ والذي يُحْلَفُ به لا يستقبلها محمدٌ أبداً؛ فقال له: كذبتَ، والذي يُحْلَف به، أما والله لأُخْبِرَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأمرك، فذهب إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرَه، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إِلى قوله: { يسيراً }، هذا قول ابن زيد.

والثاني: أن عبد الله بن أُبيّ ومُعتّب بن قُشَير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إِلى المدينة، كانوا إِذا جاءهم منافق قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرُج، ويكتُبون بذلك إِلى إِخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنَّا ننتظركم - يثبِّطونهم عن القتال - وكانوا لا يأتون العسكر إِلاَّ أن لا يجدوا بُدّاً، فيأتون العسكر ليرى الناسُ وجوههم، فاذا غُفل عنهم، عادوا إِلى المدينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.

والمعوِّق: المثبّط؛ تقول: عاقني فلان، واعتاقني، وعوَّقني: إِذا منعك عن الوجه الذي تريده. وكان المنافقون يعوِّقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نُصَّاره.

قوله تعالى: { والقائلين لإِخوانهم هَلُمَّ إِلينا } فيهم ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد.

والثاني: أنهم اليهود دعَواْ إِخوانهم من المنافقين إِلى ترك القتال، قاله مقاتل.

والثالث: أنهم المنافقون دعَواْ المسلمين إِليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه الماوردي.

قوله تعالى: { ولا يأتون البأْس } أي: لا يحضُرون القتال في سبيل الله { إِلاَّ قليلاً } للرِّياء والسُّمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك [القليل] لله لكان كثيراً.

قوله تعالى: { أَشِحَّةً عليكم } قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: لا يأتون الحرب إِلا تعذيراً، بخلاءَ عليكم.

وللمفسرين فيما شحُّوا به أربعة أقوال.

أحدها: أشحة بالخير، قاله مجاهد.

والثاني: بالنفقة في سبيل الله.

والثالث: بالغنيمة، رويا عن قتادة. وقال الزجاج: بالظَّفَر والغنيمة.

والرابع: بالقتال معكم، حكاه الماوردي.

ثم أخبر عن جُبنهم فقال: { فاذا جاء الخوفُ } أي: إِذا حضر القتال { رأيتَهم ينظُرون إِليك تدورُ أعينُم كالذي يُغْشَى عليه مِنَ الموت } أي: كدوَران عين الذي يُغْشَى عليه من الموت، وهو الذي دنا موته وغشيتْه أسبابُه، فانه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يَطْرِف، فكذلك هؤلاء، لأنهم يخافون القتل.

{ فاذا ذهبَ الخوفُ سَلَقُوكم } قال الفراء: آذَوْكم بالكلام في الأمن { بألسنة حِدادٍ } سليطة ذَرِبة، والعرب تقول: صَلَقوكم، بالصاد، ولا يجوز في القراءة؛ وهذا قول الفراء. وقد قرأ بالصاد أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة في آخرين وقال الزجاج: معنى: { سلقوكم }: خاطبوكم أشدَّ مخاطَبة وأبلَغها في الغنيمة، يقال: خطيب مِسْلاق: إِذا كان بليغاً في خطبته { أَشِحَّةً على الخير } أي: خاطبوكم وهُم أشحَّة على المال والغنيمة. قال قتادة: إِذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطُونا فلستم أحقَّ بها منَّا؛ فأمَّا عند الباس، فأجبن قوم وأخذله للحق، وأمَّا عند الغنيمة، فأشحُّ قوم.

وفي المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه الغنيمة.

والثاني: على المال أن يُنفقوه في سبيل الله تعالى.

والثالث: على رسول الله صلى الله عليه وسلم بظَفَره. قوله تعالى: { أولئك لم يُؤْمِنوا } أي: هُمْ وإِن أظهروا الإِيمان فليسوا بمؤمِنين، لنفاقهم { فأحبَطَ اللّهُ أعمالَهم } قال مقاتل: أبطلَ جهادهم، لأنه لم يكن في إِيمان { وكان ذلك } الإِحباط { على الله يسيراً }.

ثم أخبر عنهم بما يدل على جُبنهم، فقال: { يَحْسَبون الأحزاب لم يَذهبوا } أي: يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجُبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، { وإِن يأتِ الأحزاب } [أي]: يَرجعوا إِليهم كَرَّةً ثانية للقتال { يَوَدُّوا لو أنَّهم بادُون في الأعراب } أي: يتمنَّوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، { يَسألون عن أنبائكم } أي: ودُّوا لو أنَّهم بالبُعد منكم يسألون عن أخباركم، فيقولون: ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهَدة، فَرَقاً وجُبناً؛ وقيل: بل يَسألون شماتةً بالمسلمين وفرحاً بنكَبَاتهم { ولو كانوا فيكم } أي: لو كانوا يشهدون القتال معكم { ما قاتلوا إِلاَّ قليلاً } فيه قولان.

أحدهما: إِلا رمياً بالحجارة، قاله ابن السائب.

والثاني: إِلا رياءً من غير احتساب، قاله مقاتل.

ثم عاب من تخلَّف بالمدينة بقوله: { لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة } أي: قُدوة صالحة. والمعنى: لقد كان لكم به اقتداءٌ لو اقتديتم به في الصبر [معه] كما صبر يوم أُحُد حتى كُسِرت رَباعِيَّتُه وشُجَّ جبينه وقُتِل عمُّه، وآساكم مع ذلك بنفسه.

وقرأ عاصم: { أُسوةٌ } بضم الألف؛ والباقون بكسر الألف؛ وهما لغتان. قال الفراء: أهل الحجاز وأَسَد يقولون: { إِسوة } بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون: { أُسوة } بالضم. وخَصَّ اللّهُ تعالى بهذه الأُسوة المؤمنين، فقال: { لِمَن كان يرجو الهل واليوم الآخر } والمعنى أن الأسوة برسول الله إِنما كانت لِمَن كان يرجو الله { واليوم الآخر }؛ وفيه قولان.

أحدهما: يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله ابن عباس.

والثاني: يخشى اللّهَ ويخشى البعث، قاله مقاتل.

قوله تعالى: { وذَكَرَ اللّهَ كثيراً } أي: ذِكْراً كثيراً، لأن ذاكر الله متَّبِع لأوامره، بخلاف الغافل عنه.

ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعَدَنا اللّهُ ورسولُه } وفي ذلك الوعد قولان.

أحدهما: أنه قوله: { أم حَسِبتم أن تدخلوا الجَنَّة ولَمَّا يأتكم مَثَل الذين خَلَوا مِنْ قَبْلِكم... } الآية: [البقرة:214] فلمَّا عاينوا البلاء يومئذ قالوا: هذا ما وعَدَنا اللّهُ ورسولُه، قاله ابن عباس، وقتادة في آخرين.

والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم النصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحِيرة، ذكره الماوردي وغيره.

قوله تعالى: { وما زادهم } يعني ما رأوه { إِلاَّ إِيماناً } بوعد الله { وتسليماً } لأمره.