قوله تعالى: { قد يَعْلَمُ اللّهُ المعوِّقين منكم } في سبب نزولها قولان.
أحدهما: أن رجلاً انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، فوجد أخاه لأُمِّه وابيه وعنده شِواءُ ونبيذٌ، فقال له: أنتَ هاهنا ورسولُ الله بين الرِّماح والسيوف؟! فقال: هلمَّ إِليَّ، لقد أُحيطَ بك وبصاحبك؛ والذي يُحْلَفُ به لا يستقبلها محمدٌ أبداً؛ فقال له: كذبتَ، والذي يُحْلَف به، أما والله لأُخْبِرَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأمرك، فذهب إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرَه، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إِلى قوله: { يسيراً }، هذا قول ابن زيد.
والثاني: أن عبد الله بن أُبيّ ومُعتّب بن قُشَير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إِلى المدينة، كانوا إِذا جاءهم منافق قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرُج، ويكتُبون بذلك إِلى إِخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنَّا ننتظركم - يثبِّطونهم عن القتال - وكانوا لا يأتون العسكر إِلاَّ أن لا يجدوا بُدّاً، فيأتون العسكر ليرى الناسُ وجوههم، فاذا غُفل عنهم، عادوا إِلى المدينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
والمعوِّق: المثبّط؛ تقول: عاقني فلان، واعتاقني، وعوَّقني: إِذا منعك عن الوجه الذي تريده. وكان المنافقون يعوِّقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نُصَّاره.
قوله تعالى: { والقائلين لإِخوانهم هَلُمَّ إِلينا } فيهم ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد.
والثاني: أنهم اليهود دعَواْ إِخوانهم من المنافقين إِلى ترك القتال، قاله مقاتل.
والثالث: أنهم المنافقون دعَواْ المسلمين إِليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: { ولا يأتون البأْس } أي: لا يحضُرون القتال في سبيل الله { إِلاَّ قليلاً } للرِّياء والسُّمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك [القليل] لله لكان كثيراً.
قوله تعالى: { أَشِحَّةً عليكم } قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: لا يأتون الحرب إِلا تعذيراً، بخلاءَ عليكم.
وللمفسرين فيما شحُّوا به أربعة أقوال.
أحدها: أشحة بالخير، قاله مجاهد.
والثاني: بالنفقة في سبيل الله.
والثالث: بالغنيمة، رويا عن قتادة. وقال الزجاج: بالظَّفَر والغنيمة.
والرابع: بالقتال معكم، حكاه الماوردي.
ثم أخبر عن جُبنهم فقال: { فاذا جاء الخوفُ } أي: إِذا حضر القتال { رأيتَهم ينظُرون إِليك تدورُ أعينُم كالذي يُغْشَى عليه مِنَ الموت } أي: كدوَران عين الذي يُغْشَى عليه من الموت، وهو الذي دنا موته وغشيتْه أسبابُه، فانه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يَطْرِف، فكذلك هؤلاء، لأنهم يخافون القتل.
{ فاذا ذهبَ الخوفُ سَلَقُوكم } قال الفراء: آذَوْكم بالكلام في الأمن { بألسنة حِدادٍ } سليطة ذَرِبة، والعرب تقول: صَلَقوكم، بالصاد، ولا يجوز في القراءة؛ وهذا قول الفراء. وقد قرأ بالصاد أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة في آخرين وقال الزجاج: معنى: { سلقوكم }: خاطبوكم أشدَّ مخاطَبة وأبلَغها في الغنيمة، يقال: خطيب مِسْلاق: إِذا كان بليغاً في خطبته { أَشِحَّةً على الخير } أي: خاطبوكم وهُم أشحَّة على المال والغنيمة. قال قتادة: إِذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطُونا فلستم أحقَّ بها منَّا؛ فأمَّا عند الباس، فأجبن قوم وأخذله للحق، وأمَّا عند الغنيمة، فأشحُّ قوم.
وفي المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الغنيمة.
والثاني: على المال أن يُنفقوه في سبيل الله تعالى.
والثالث: على رسول الله صلى الله عليه وسلم بظَفَره. قوله تعالى: { أولئك لم يُؤْمِنوا } أي: هُمْ وإِن أظهروا الإِيمان فليسوا بمؤمِنين، لنفاقهم { فأحبَطَ اللّهُ أعمالَهم } قال مقاتل: أبطلَ جهادهم، لأنه لم يكن في إِيمان { وكان ذلك } الإِحباط { على الله يسيراً }.
ثم أخبر عنهم بما يدل على جُبنهم، فقال: { يَحْسَبون الأحزاب لم يَذهبوا } أي: يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجُبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، { وإِن يأتِ الأحزاب } [أي]: يَرجعوا إِليهم كَرَّةً ثانية للقتال { يَوَدُّوا لو أنَّهم بادُون في الأعراب } أي: يتمنَّوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، { يَسألون عن أنبائكم } أي: ودُّوا لو أنَّهم بالبُعد منكم يسألون عن أخباركم، فيقولون: ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهَدة، فَرَقاً وجُبناً؛ وقيل: بل يَسألون شماتةً بالمسلمين وفرحاً بنكَبَاتهم { ولو كانوا فيكم } أي: لو كانوا يشهدون القتال معكم { ما قاتلوا إِلاَّ قليلاً } فيه قولان.
أحدهما: إِلا رمياً بالحجارة، قاله ابن السائب.
والثاني: إِلا رياءً من غير احتساب، قاله مقاتل.
ثم عاب من تخلَّف بالمدينة بقوله: { لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة } أي: قُدوة صالحة. والمعنى: لقد كان لكم به اقتداءٌ لو اقتديتم به في الصبر [معه] كما صبر يوم أُحُد حتى كُسِرت رَباعِيَّتُه وشُجَّ جبينه وقُتِل عمُّه، وآساكم مع ذلك بنفسه.
وقرأ عاصم: { أُسوةٌ } بضم الألف؛ والباقون بكسر الألف؛ وهما لغتان. قال الفراء: أهل الحجاز وأَسَد يقولون: { إِسوة } بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون: { أُسوة } بالضم. وخَصَّ اللّهُ تعالى بهذه الأُسوة المؤمنين، فقال: { لِمَن كان يرجو الهل واليوم الآخر } والمعنى أن الأسوة برسول الله إِنما كانت لِمَن كان يرجو الله { واليوم الآخر }؛ وفيه قولان.
أحدهما: يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله ابن عباس.
والثاني: يخشى اللّهَ ويخشى البعث، قاله مقاتل.
قوله تعالى: { وذَكَرَ اللّهَ كثيراً } أي: ذِكْراً كثيراً، لأن ذاكر الله متَّبِع لأوامره، بخلاف الغافل عنه.
ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعَدَنا اللّهُ ورسولُه } وفي ذلك الوعد قولان.
أحدهما: أنه قوله:
{ أم حَسِبتم أن تدخلوا الجَنَّة ولَمَّا يأتكم مَثَل الذين خَلَوا مِنْ قَبْلِكم... } الآية: [البقرة:214] فلمَّا عاينوا البلاء يومئذ قالوا: هذا ما وعَدَنا اللّهُ ورسولُه، قاله ابن عباس، وقتادة في آخرين. والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم النصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحِيرة، ذكره الماوردي وغيره.
قوله تعالى: { وما زادهم } يعني ما رأوه { إِلاَّ إِيماناً } بوعد الله { وتسليماً } لأمره.