{وقال فرعونُ ذَرُوني أقْتُلْ موسى} وإنما قال هذا، لأنه كان في خاصَّة فرعونَ مَنْ يَمْنَعُه مِنْ قَتْله خوفاً من الهلاك {وَلْيَدْعُ ربَّه} الذي يزعُم أنه أرسله فلْيمنعه من القتل {إِنِّي أَخافُ أن يبدِّل دينَكم} أي: عبادتكم إيّاي {وأن يُظْهِرَ في الأرض الفسادَ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {وأن} بغير ألف. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {أو أن} بألف قبل الواو على معنى: إن لم يبدِّل دِينَكم أوْقَعَ الفسادَ، إلاّ أن نافعاً وأبا عمرو قرآ: {يُظْهِرَ} بضم الياء {الفسادَ} بالنصب. وقرأ الباقون {يَظْهَرَ} بفتح الياء "الفسادُ" بالرفع، والمعنى: يظهر الفساد بتغيير أحكامنا فجعل ذلك فساداً بزعمه؛ وقيل: يقتل أبناءَكم كما تفعلون بهم.
فلمّا قال فرعونُ هذا، استعاذ موسى بربّه فقال: {إنِّي عُذْتُ بربِّي وربِّكم} قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر: {عُذْتُ} مبيَّنة الذّال، وأدغمها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف {مِنْ كُلٍّ متكبِّرٍ} أي: متعظّم عن الإِيمان فقصد فرعونُ قتل موسى، فقال حينئذ {رجُلٌ مؤمِنُ من آل فرعون...}.
وفي الآل هاهنا قولان.
أحدهما: [أنه] بمعنى الأهل والنَّسب؛ قال السدي ومقاتل: كان ابنَ عمٍّ فرعون، وهو المراد بقوله
{ وجاء رجُلٌ مِنْ أقصى المدينة يَسعى } [القصص: 20]. والثاني: أنه بمعنى القبيلة والعشيرة؛ قال قتادة ومقاتل: كان قبطيّاً. وقال قوم: كان إسرائيليّاً، وإنما المعنى: قال رجل مؤمن يكتُم إيمانَه من آل فرعون؛ وفي اسمه خمسة أقوال:
أحدها: حزبيل، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: حبيب: قاله كعب.
والثالث: سمعون، بالسين المهملة، قاله شعيب الجبَّائي.
والرابع: جبريل.
والخامس: شمعان، بالشين المعجمة، رويا عن ابن إسحاق، وكذلك حكى الزجاج "شمعان" بالشين، وذكره ابن ماكولا بالشين المعجمة أيضاً. والأكثرون على أنه آمن بموسى لمّا جاء. وقال الحسن: كان مؤمناً قبل مجيء موسى، وكذلك امرأة فرعون. قال مقاتل: كتم إيمانه من فرعون مائة سنة.
قوله تعالى {أتقتُلون رجُلاً أن يقولَ} أي: لأن يقولَ {ربِّيَ اللهُ} وهذا استفهام إنكار {وقد جاؤكم بالبيِّنات} أي: بما يدُلُّ على صِدقه {وإِن يَكُ كاذباً فعليه كَذِبُه} أي: لا يضرُّكم ذلك {وإن يَكُ صادقاً يُصِبْكم بَعْضُ الذي يَعِدُكم} من العذاب. وفي "بَعْض" ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها بمعنى "كُلّ"، قاله أبو عبيدة، وأنشد للبيد:
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذا لَمْ أَرْضَها أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
أراد: كُلَّ النفُّوس. والثاني: أنها صِلَة؛ والمعنى: يُصِبْكم الذي يَعِدُكم، حُكي عن الليث.
والثالث: أنها على أصلها، ثم في ذلك قولان.
أحدهما: أنه وعدهم النجاةَ إن آمنوا، والهلاكَ إن كفروا، فدخل ذِكْر البعض لأنهم على أحد الحالين.
والثاني: أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، فصار هلاكُهم في الدنيا بعضَ الوَعْد، ذكرهما الماوردي.
قال الزجاج: هذا باب من النظر يذهب فيه المُناظِر إلى إلزام الحُجَّة بأيسر ما في الأمر، وليس في هذا نفي إصابة الكلِّ، ومثله قول الشاعر:
قَدْ يُدْرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مِنَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
وإنما ذكر البعض ليوجبَ الكلَّ، لأن البعض من الكلّ، ولكن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزَّلل، فقد أبان فَضْلَ المتأنِّي على المستعجِل بما لا يَقْدِر الخصم أن يدفعه، فكأنَّ المؤمن قال لهم: أَقَلْ ما يكون في صِدقه أن يُصيبَكم بعضُ الذي يَعِدُكم، وفي بعض ذلك هلاككم؛ قال: وأما بيت لبيد، فإنه أراد ببعض النفوس: نَفْسَه وحدها. قوله تعالى: {إنَّ الله لا يَهْدي} أي: لا يوفِّق للصَّواب {من هو مُسْرِفٌ} وفيه قولان.
أحدهما: أنه المشرك، قاله قتادة.
والثاني: أنه السَّفَّاك للدَّم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: {ظاهرِين في الأرض} أي: عالِين في أرض مصر {فمن يَنْصُرنا} أي: من يَمْنَعُنا {من بأس الله} أي: من عذابه؛ والمعنى: لا تتعرَّضوا للعذاب بالتكذيب وقَتْل النَّبيِّ، فقال فرعونُ عند ذلك: {ما أُرِيكم} من الرّأي والنّصيحة {إلاّ ما أَرى} لنفسي {وما أهْدِيكم} أي: أدعوكم إلاّ إلى طريق الهُدى في تكذيب موسى والإيمان بي، وهذا يَدُلُّ على أنه انقطع عن جواب المؤمِن.
{وقال الذي آمن يا قومِ إِنِّي أخافُ عليكم مِثْلَ يَوْمِ الأحزابِ} قال الزجّاج: أي مِثْلَ يَوْمِ حزب حزب؛ والمعنى: أخاف أن تُقيموا على كفركم فينزلَ بكم من العذاب مِثْلُ ما نزل بالأُمم المكذِّبة رسلهم.
قوله تعالى: {يومَ التَّنادِ} قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {التَّنادِ} بغير ياءٍ. وأثبت الياء في الوصل والوقف ابن كثير، ويعقوب، وافقهم أبو جعفر في الوصل. وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وأبو العالية/ والضحاك: {التَّنادِّ} بتشديد الدال. قال الزجاج: أمّا إثبات الياء فهو الأصل، وحذفها حسن جميل، لأن الكسرة تدُلُّ على الياء، وهو رأس آية، وأواخر هذه الآيات على الدَّال، ومن قرأ بالتشديد، فهو من قولهم: نَدَّ فلان، ونَدَّ البعير: إِذا هرب على وجهه، ويدل على هذا قوله {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} وقوله
{ يومَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أخيه } [عبس:34] قال أبو علي: معنى الكلام إنِّي أخاف عليكم عذاب يوم التَّناد. قال الضحاك: إذا سمع الناسُ زفير جهنم وشهيقها نَدُّوا فِراراً منها في الأرض، فلا يتوجَّهونُ قطراً من أقطار الأرض إلا رأوْا ملائكة، فيرجعون من حيث جاؤوا. وقال غيره: يُؤمَر بهم إلى النار فيَفِرُّون ولا عاصم لهم. فأمّا قراءة التخفيف، فهي من النّداء، وفيها للمفسرين أربعة أقوال: أحدها: أنه عند نفخة الفزع ينادي الناسُ بعضهم بعضاً. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"يأمرُ اللهُ عز وجل إِسرافيلَ بالنَّفخة الأولى فيقول: انفُخْ نفخةَ الفزع، فيفزَعُ أهلُ السموات والأرض إِلاّ من شاء الله، فتُسيَّر الجبالُ، وتُرَجُّ الأرض. وتَذْهَلُ المراضعُ، وتضع الحواملُ، ويولِّي الناس مُدْبِرين ينادي بعضهم بعضاً وهو قوله: {يوم التناد}" .والثاني: أنه نداء أهل الجنة والنار بعضهم بعضاً كما ذكر في [الأعراف:44ـ50]، وهذا قول قتادة.
والثالث: أنه قولهم: يا حسرتنا يا ويلتنا قاله ابن جريج.
والرابع: أنه ينادى فيه كلُّ أُناس بإمامهم بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء.
قوله تعالى: {يومَ تُوَلَّونَ مُدْبِرِينَ} فيه قولان.
أحدهما: هرباً من النار.
والثاني: أنه انصرافهم إلى النار.
قوله تعالى: {مالكم مِنَ الله مِنْ عاصم} أي: من مانع.
قوله تعالى: {ولقد جاءكم يوسف} وهو يوسف بن يعقوب، ويقال: إنه ليس به، وليس بشيء.
قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ} أي: مِنْ قَبْلِ موسى {بالبيِّناتِ} وهي الدّلالات على التوحيد، كقوله
{ أأربابٌ متفرِّقون خيرٌ... } الآية [يوسف:39]، وقال ابن السائب: البيِّنات: تعبير الرُّؤيا وشَقُّ القميص، وقيل: بل بعثه الله تعالى بعد موت ملِك مصر إلى القبط. قوله تعالى: {فما زِلتم في شَكّ ممّا جاءكم به} أي: من عبادة الله وحده {حتى إذا هَلَكَ} أي: مات {قُلْتُم لن يَبعث اللهُ مِنْ بعده رسولاً} أي: إنكم أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدِّد إِيجابَ الحجة عليكم {كذلك} أي: مِثْل هذا الضَّلال {يُضِلُّ اللهُ مَنْ هو مُسْرِفٌ} أي: مُشْرِكٌ {مُرتابٌ} أي: شاكٌّ في التوحيد وصِدق الرُّسل.