قوله تعالى: { الذين كَفَروا } أي: بتوحيد الله { وصَدُّوا } الناس عن الإِيمان به، وهم مشركو قريش، { أَضَلَّ أعمالَهم } أي: أبطلها، ولم يجعل لها ثواباً، فكأنَّها لم تكن؛ وقد كانوا يُطْعِمُون الطَّعامَ، ويَصِلون الأرحام، ويتصدّقون، ويفعلون ما يعتقدونه قُرْبَةً.
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني: أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ وآمَنوا بما نُزِّل على محمد } وقرأ ابن مسعود { نَزَّلَ } بفتح النون والزَّاي وتشديدها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاذ القارىء: "أُنْزِلَ" بهمزة مضمومة مكسورة الزَّاي. وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، وأبو عمران: "نَزَلَ" بفتح النون والزاي وتخفيفها، { كَفَّر عنهم سيِّئآتِهم } أي: غفرها لهم { وأصْلَحَ بالَهم } أي: حالَهم، قاله قتادة، والمبرِّد.
قوله تعالى: { ذلك } قال الزجاج: معناه: الأمرُ ذلك، وجائز أن يكون: ذلك الإِضلال، لاتِّباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفّارات باتِّباع المؤمنين الحقَّ، { كذلك يَضْرِبُ اللهُ للناس أمثالَهم } أي: كذلك يبيِّن أمثال حسنات المؤمنين وسيِّئات الكافرين كهذا البيان.
قوله تعالى: { فضَرْبَ الرِّقابِ } إِغراءُ؛ والمعنى: فاقتُلوهم، لأن الأغلب في موضع القتل ضربُ العُنق { حتى إَذا أثْخَنْتموهم } أي: أكثرتُم فيهم القتل { فشُدُّوا الوَثاقَ } يعني في الأسر؛ وإِنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل. و"الوَثاق" اسم من الإِيثاق؛ تقول: أوثقتُه إِيثاقاً ووَثاقاً، إِذا شددتَ أسره لئلا يُفْلِت { فإمّا مَنّاً بَعْدُ } قال أبو عبيدة: إِمّا أن تُمنُّوا وإِمّا أن تفادوا، ومثلُه سَقْياً، ورَعْياً، وإِنما هو سُقِيتَ ورُعِيتَ. وقال الزجاج: إِمَّا منَنَتُم عليهم بعد أن تأسِروهم مَنّاً، وإِمّا أطلقتُموهم بِفِداء.
فصل
وهذه الآية محكَمة عند عامَّة العلماء. وممَّن ذهب إِلى أنَّ حُكم المَنِّ والفداء باقٍ لم يُنْسَخ: ابنُ عمر، ومجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ سيرين، وأحمدُ، والشافعيُّ. وذهب قوم إلى نسخ المَنِّ والفداء بقوله: { فاقْتُلوا المشركين حيثُ وجدتموهم }، وممن ذهب إلى هذا ابن جريج، والسدي وأبو حنيفة. وقد أشرنا إِلى القولين في [براءة: 5].
قوله تعالى: { حتَّى تَضَعَ الحربُ أوزارَها } قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين. وقال مجاهد: حتى لا يكون دِينُ إِلاّ دين الإِسلام. وقال سعيد بن جبير: حتى يخرُج المسيح. وقال الفراء: حتى لا يبقى إلاّ مُسْلِم أو مُسالِم. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: حتى يضعَ أهلُ الحرب سلاحَهم؛ قال الأعشى:
وَأًَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراَ
وأصل "الوِزْرِ" ما حملته، فسمّى السلاح "أوزاراً" لأنه يُحْمل، هذا قول ابن قتيبة. والثاني: حتى تضعَ حربُكم وقتالكم أوزارَ المشركين وقبائح أعمالهم بأن يُسْلِموا ولا يعبُدوا إِلاَّ الله، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: { ذلك } أي: الأمر ذلك الذي ذَكَرْنا { ولو يشاء اللهُ لانْتَصَر منهم } بإهلاكهم أوتغذيتهم بما شاء { ولكنْ } أمركم بالحرب { لِيَبْلُو بعضَكم ببعض } فيُثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب.
قوله تعالى: { والذين قُتِلُوا } قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم: { قٌتِلُوا } بضم القاف وكسر التاء؛ والباقون: { قاتَلُوا } بألف.
قوله تعالى: { سيَهدِيهم } فيه أربعة أقوال:
أحدها: يَهديهم إِلى أرشد الأمور، قاله ابن عباس.
والثاني: يحقق لهم الهداية، قاله الحسن.
والثالث: إِلى مُحاجَّة منكَر ونكير.
والرابع: إِلى طريق الجنة، حكاهما الماوردي.
وفي قوله: { عرَّفها لهم } قولان:
أحدهما: عرَّفهم منازلهم فيها فلا يستدِلُّون عليها ولا يُخطِئونها، هذا قول الجمهور، منهم مجاهد وقتادة، واختاره الفراء، وأبو عبيدة.
والثاني: طيَّبها لهم، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: وهو قول أصحاب اللغة يقال: طعامٌ معرَّف، أي: مطيَّب.
وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء وابن محيصن: { عَرَفَها لهم } بتخفيف الراء.