خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ
١٧٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٨
وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧٩
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٨١
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨٢
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٨٣
أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٤
شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٨٥
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
١٨٦
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
١٨٧
وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٨
-البقرة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ } أي ليس البر توليتكم { وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } والخطاب لأهل الكتاب لأن قبلة النصارى مشرق بيت المقدس، وقبلة اليهود مغربه، وكل واحد من الفريقين يزعم أن البر التوجه إلى قبلته، فرد عليهم بأن البر ليس فيما أنتم عليه فإنه منسوخ { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ } بر { مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ } أو ذا البر من آمن والقولان على حذف المضاف والأول أجود. والبر اسم للخير ولكل فعل مرضي. وقيل: كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل: ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة، ولكن البر الذي يجب الاهتمام به بر من آمن وقام بهذه الأعمال. «ليس البر» بالنصب على أنه خبر «ليس» واسمه «أن تولوا»: حمزة وحفص. «ولكن البر»: نافع وشامي. وعن المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت «ولكن البر» وقرىء «ولكن البار». { وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي يوم البعث { وَٱلْمَلَـٰئِكَةِ وَٱلْكِتَـٰبِ } أي جنس كتب الله أو القرآن { وَٱلنَّبِيِّينَ وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } أي على حب الله أو حب المال أو حب الإيتاء يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه { ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ } أي القرابة وقدمهم لأنهم أحق. قال عليه الصلاة والسلام: "صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك صدقة وصلة" . { وَٱلْيَتَـٰمَىٰ } والمراد الفقراء من ذوي القربى واليتامى، وإنما أطلق لعدم الإلباس. { وَٱلْمَسَـٰكِينُ } المسكين الدائم السكون إلى الناس لأنه لا شيء له كالسكير للدائم السكر { وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } المسافر المنقطع وهو جنس وإن كان مفرداً لفظاً، وجعل ابناً للسبيل لملازمته له أو الضيف { وَٱلسَّائِلِينَ } المستطعمين { وَفِي ٱلرّقَابِ } وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم أو في الأسارى { وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ } المكتوبة { وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ } المفروضة. قيل: هو تأكيد للأول. وقيل: المراد بالأول نوافل الصدقات والمبار. { وَٱلْمُوفُونَ } عطف على من آمن { بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـٰهَدُواْ } الله والناس { وَٱلصَّـٰبِرِينَ } نصب على المدح والاختصاص إظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. { فِى ٱلْبَأْسَاءِ } الفقر والشدة { وَٱلضَّرَّاءِ } المرض والزمانة { وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } وقت القتال { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا } أي أهل هذه الصفة هم الذين صدقوا في الدين { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }. روي أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى والاثنين بالواحد فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء الله بالإسلام فنزل. { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ } أي فرض { عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ } وهو عبارة عن المساواة وأصله من قص أثره واقتصه إذا اتبعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار { فِي ٱلْقَتْلَى } جمع قتيل. والمعنى فرض عليكم اعتبار المماثلة والمساواة بين القتلى { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ } مبتدأ وخبر أي الحر مأخوذ أو مقتول بالحر { وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ } وقال الشافعيرحمه الله : لا يقتل الحر بالعبد لهذا النص وعندنا يجزي القصاص بين الحر والعبد بقوله تعالى: { أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [المائدة: 45]. كما بين الذكر والأنثى وبقوله عليه السلام "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وبأن التفاضل غير معتبر في الأنفس بدليل أن جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به، وبأن تخصيص الحكم بنوع لا ينفيه عن نوع آخر بل يبقى الحكم فيه موقوفاً على ورود دليل آخر وقد ورد كما بينا. { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَٱتِبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ } قالوا: العفو ضد العقوبة. يقال: عفوت عن فلان إذا صفحت عنه وأعرضت عن أن تعاقبه وهو يتعدى بـ «عن» إلى الجاني وإلى الجناية { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } (البقرة؛ 52) { { وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيّئَـٰتِ } [الشورى: 25] وإذا اجتمعا عدي إلى الأول باللام فتقول "عفوت له عن ذنبه" ومنه الحديث عفوت لكم عن صدقه الخيل والرقيق وقال الزجاج: من عفي له أي من ترك له القتل بالدية. وقال الأزهري: العفو في اللغة الفضل ومنه: { { يَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ * ٱلْعَفْوَ } [البقرة: 219]. ويقال: عفوت لفلان بمال إذا أفضلت له وأعطيته، وعفوت له عما لي عليه إذا تركته. ومعنى الآية عند الجمهور: فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو على أن الفعل مسند إلى المصدر كما في سير بزيد بعض السير والأخ ولي المقتول. وذكر بلفظ الأخوّة بعثاً له على العطف لما بينهما من الجنسية والإسلام، ومن هو القاتل المعفو له عما جنى وترك المفعول الآخر استغناء عنه. وقيل: أقيم «له» مقام «عنه» والضمير في «له» و«أخيه» لـــــ من، وفي «إليه» للأخ أو للمتبع الدال عليه فاتباع لأن المعنى فليتبع الطالب القاتل بالمعروف بأن يطالبه مطالبة جميلة، وليؤد إليه المطلوب أي القاتل بدل الدم أداء بإحسان بأن لا يمطله ولا يبخسه. وإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفا عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص. ومن فسر «عُفى» بترك جعل «شيء» مفعولاً به، وكذا من فسره بـ «أعطى» يعني أن الولي إذا أعطى له شيء من مال أخيه يعني القاتل بطريق الصلح فليأخذه بمعروف من غير تعنيف، وليؤده القاتل إليه بلا تسويف. وارتفاع اتباع بأنه خبر مبتدأ مضمر أي فالواجب «اتباع» { ذٰلِكَ } الحكم المذكور من العفو وأخذ الدية { تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } فإنه كان في التوراة القتل لا غير، وفي الإنجيل العفو بغير بدل لا غير، وأبيح لنا القصاص والعفو وأخذ المال بطريق الصلح توسعة وتيسيراً. والآية تدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن للوصف بالإيمان بعد وجود القتل ولبقاء الأخوّة الثابتة بالإيمان ولاستحقاق التخفيف والرحمة { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ } التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل أو القتل بعد أخذ الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } كلام فصيح لما فيه من الغرابة، إذ القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جـعل ظرفاً للحياة. وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة بلاغة بينة لأن المعنى ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة لمنعه عما كانوا عليه من قتل الجماعة بواحد متى اقتدروا فكان القصاص حياة وأي حياة. أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالقصاص من القاتل، لأنه إذا هم بالقتل فتذكر الاقتصاص ارتدع فسلم صاحبه من القتل وهو من القود فكان شرع القصاص سبب حياة نفسين. { يأُوْلِي ٱلأَلْبَـٰبِ } يا ذوي العقول { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } القتل حذراً من القصاص.

{ كِتَـٰبَ } فرض { عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } أي إذا دنا منه فظهرت أمارته { إِن تَرَكَ خَيْرًا } مالاً كثيراً لما روي عن علي رضي الله عنه إن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه وقال: قال الله تعالى: «إن ترك خيراً». والخير هو المال الكثير وليس لك مال وفاعل كتب { ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } وكانت الوصية للوارث في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث كما بيناه في شرح المنار. وقيل: هي غير منسوخة لأنها نزلت في حق من ليس بوارث بسبب الكفر لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقرائبه، والإسلام قطع الإرث فشرعت الوصية فيما بينهم قضاء لحق القرابة ندباً وعلى هذا لا يراد بكتب فرض { بِٱلْمَعْرُوفِ } بالعدل وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث { حَقّاً } مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً { عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } على الذين يتقون الشرك { فَمَن بَدَّلَهُ } فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود { بَعْدَ مَا * سَمِعَهُ } أي الإيصاء { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ } فما إثم التبديل إلا على مبدليه دون غيرهم من الموصي والموصى له لأنهما بريئان من الحيف { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لقول الموصي { عَلِيمٌ } بجور المبدل { فَمَنْ خَافَ } علم وهذا شائع في كلامهم يقولون أخاف أن ترسل السماء ويريدون الظن الغالب الجاري مجرى العلم { مِن مُّوصٍ } «موصّ»: كوفي غير حفص. { جَنَفًا } ميلاً عن الحق بالخطإ في الوصية { أَوْ إِثْماً } تعمداً للحيف { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون بإجرائهم على طريق الشرع { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } حينئذ لأن تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدل بالباطل، ثم من يبدل بالحق ليعلم أن كل تبديل لا يؤثم. وقيل: هذا في حال حياة الموصي أي فمن حضر وصيته فرآه على خلاف الشرع فنهاه عن ذلك وحمله على الصلاح فلا إثم على هذا الموصي بما قال أولاً { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ } أي فرض { عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ } هو مصدر صام والمراد صيام شهر رمضان { كَمَا كُتِبَ } أي كتابة مثل ما كتب فهو صفة مصدر محذوف { عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } على الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم فهو عبادة قديمة، والتشبيه باعتبار أن كل أحد له صوم أيام أي أنتم متعبدون بالصيام في أيام كما تعبد من كان قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } المعاصي بالصيام لأن الصيام أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء، أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين إذ الصوم شعارهم.

وانتصاب { أَيَّامًا } بالصيام أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً { مَّعْدُودٰتٍ } موقتات بعدد معلوم أي قلائل وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد لا الكثير { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } يخاف من الصوم زيادة المرض { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } أو راكب سفر { فَعِدَّةٌ } فعليه عدة أي فأفطر فعليه صيام عدد أيام فطره، والعدة بمعنى المعدود أي أمر أن يصوم أياماً معدودة مكانها { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } سوى أيام مرضه وسفره. وأخر لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام لأن الأصل في «فعلى» صفة أن تستعمل في الجمع بالألف واللام كالكبرى والكبر والصغرى والصغر { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر لهم إن أفطروا { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } نصف صاع من بر أو صاع من غيره، فـ «طعام» بدل من «فدية». «فدية طعام مساكين». مدني وابن ذكوان. وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية، ثم نسخ التخيير بقوله: «فمن شهد منكم الشهر فليصمه». ولهذا كرر قوله: «فمن كان منكم مريضاً أو على سفر». لأنه لما كان مذكوراً مع المنسوخ ذكر مع الناسخ ليدل على بقاء هذا الحكم. وقيل: معناه لا يطيقونه فأضمر «لا» لقراءة حفصة كذلك وعلى هذا لا يكون منسوخاً. { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } فزاد على مقدار الفدية { فهو خيرٌ لّه } فالتطوع أو الخير خير له يطوع بمعنى يتطوع: حمزة وعلي { وَأَن تَصُومُواْ } أيها المطيقون { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الفدية وتطوع الخير وهذا في الابتداء. وقيل: وأن تصوموا في السفر والمرض خير لكم لأنه أشق عليكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } شرط محذوف الجواب.

{ شَهْرُ رَمَضَانَ } مبتدأ خبره { ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } أي ابتدىء فيه إنزاله وكان في ليلة القدر أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى: «كتب عليكم الصيام» وهو بدل من الصيام أو خبر مبتدأ محذوف أي هو شهر. والرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر وجعل علماً، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون، وسموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته، ولأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر. فإن قلت: ما وجه ما جاء في الحديث «من صام رمضان إيماناً واحتساباً» مع أن التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً؟ قلت: هو من باب الحذف لأمن الإلباس. «القران» حيث كان غير مهموز: مكي. وانتصب { هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ } على الحال أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل، ذكر أولاً أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله وفرق بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال. { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر. و«الشهر» منصوب على الظرف وكذا الهاء في «ليصمه» ولا يكون مفعولاً به لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } «فعدة» مبتدأ والخبر محذوف أي فعليه عدة أي صوم عدة { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } حيث أباح الفطر بالسفر والمرض { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } ومن فرض الفطر على المريض والمسافر حتى لو صاما تجب عليهما الإعادة فقد عدل عن موجب هذا { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } عدة ما أفطرتم بالقضاء إذا زال المرض والسفر، والفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره لتعلموا ولتكملوا العدة { وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر. فقوله:« لتكملوا» علة الأمر بمراعاة العدة و«لتكبروا» علة ما علم من كيفية القضاء والخروج من عهدة الفطر «ولعلكم تشكرون» علة الترخيص وهذا نوع من اللف اللطيف المسلك. وعدي التكبير بـ «على» لتضمنه معنى الحمد كأنه قيل: لتكبروا الله أي لتعظموه حامدين على ما هداكم إليه. و«لتكمّلوا» بالتشديد: أبو بكر. ولما قال إعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ نزل { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } علماً وإجابة لتعاليه عن القرب مكاناً { أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } «الداعي» «دعاني» في الحالين: سهل ويعقوب، ووافقهما أبو عمرو ونافع غير قالون في الوصل. غيرهم بغير ياء في الحالين. ثم إجابة الدعاء وعد صدق من الله لا خلف فيه، غير أن إجابة الدعوة تخالف قضاء الحاجة فإجابة الدعوة أن يقول العبد يا رب فيقول الله لبيك عبدي، وهذا أمر موعود موجود لكل مؤمن وقضاء الحاجة إعطاء المراد وذا قد يكون ناجزاً وقد يكون بعد مدة وقد يكون في الآخرة وقد تكون الخيرة له في غيره { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم { وَلْيُؤْمِنُواْ بِى } واللام فيهما للأمر { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد وهو ضد الغي. كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة.ثم إن عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي عليه السلام وأخبره بما فعل فقال عليه السلام ما كنت جديراً بذلك فنزل { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ } إي الجماع { إِلَىٰ نِسَائِكُمْ } عدى بـ «إلى» لتضمنه معنى الإفضاء وإنما كنى عنه بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يقل الإفضاء إلى نسائكم استقباحاً لما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختياناً لأنفسهم، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه شبه باللباس المشتمل عليه بقوله تعالى: { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وقيل: لباس أي ستر عن الحرام، و«هن لباس لكم» استئناف كالبيان لسبب الإحلال وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن فلذا رخص لكم في مباشرتهن { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } تظلمونها بالجماع وتنقصونها حظها من الخير. والاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور { وَعَفَا عَنكُمْ } ما فعلتم قبل الرخصة { فَالـئٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ } جامعوهن في ليالي الصوم وهو أمر إباحة وسميت المجامعة مباشرة لالتصاق بشرتيهما { وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل، أو وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ } هو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود { مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ } وهو ما يمتد من سواد الليل شبهاً بخيطين أبيض وأسود لامتدادهما { مِنَ ٱلْفَجْرِ } بيان أن الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر، أو «من» للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوله. وقوله «من الفجر» أخرجه من باب الاستعارة وصيره تشبيهاً بليغاً كما أن قولك «رأيت أسداً» مجاز فإذا زدت «من فلان» رجع تشبيهاً. وعن عدي ابن حاتم قال: عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فنظرت إليهما فلم يتبين لي الأبيض من الأسود، فأخبرت النبي عليه السلام بذلك فقال: إنك لعريض القفا أي سليم القلب لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل. وفي قوله { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ } أي الكف عن هذه الأشياء دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، وعلى نفي الوصال، وعلى وجوب الكفارة في الأكل والشرب، وعلى أن الجنابة لا تنافي الصوم { وَلاَ تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَـٰجِدِ } معتكفون فيها، بيّن أن الجماع يحل في ليالي رمضان لكن لغير المعتكف. والجملة في موضع الحال، وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد { تِلْكَ } الأحكام التي ذكرت { حُدُودُ ٱللَّهِ } أحكامه المحدودة { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } بالمخالفة والتغيير { كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ } شرائعه { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } المحارم.

{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم } أي لا يأكل بعضكم مال بعض { بِٱلْبَـٰطِلِ } بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ } ولا تدلوا بها فهو مجزوم داخل في حكم النهي يعني ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام { لِتَأْكُلُواْ } بالتحاكم { فَرِيقاً } طائفة { مّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإثْمِ } بشهادة الزور أو بالأيمان الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم. وقال عليه السلام للخصمين "إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذون منه شيئاً فإن ما أقضى له قطعة من نار" فبكيا وقال كل واحد منهما حقي لصاحبي. وقيل: وتدلوا بها وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة. يقال أدلى دلوه أي ألقاه في البئر للاستقاء. { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم على الباطل وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق.