خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٨٩
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
١٩٠
وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ
١٩١
فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٢
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ فَإِنِ ٱنْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
١٩٣
ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ
١٩٤
وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٩٥
وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١٩٦
ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
١٩٧
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ
١٩٨
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٩
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
٢٠١
أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٢٠٢
-البقرة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

قال معاذ بن جبل: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ فنزل { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ } جـمع هلال سمي به لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته { قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } أي معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وغير ذلك، ومعالم للحج يعرف بها وقته. كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب، فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فنزل { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } أي ليس البر بتحرجكم من دخول الباب، ولا خلاف في رفع البر هنا لأن الآية ثمة تحتمل الوجهين كما بينا فجاز الرفع والنصب ثمة، وهذه لا تحتمل إلا وجهاً واحداً وهو الرفع إذ الباء لا تدخل إلا على خبر «ليس» { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ } بر { مَنِ ٱتَّقَىٰ } ما حرم الله. «البيوت» وبابه مدني وبصري وحفص وهو الأصل مثل كعب وكعوب، ومن كسر الباء فلمكان الياء بعدها ولكن هي توجب الخروج من كسر إلى ضم وكأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها. معلوم أن كل ما يفعله الله تعالى لا يكون إلا حكمة فدعوا السؤال عنه وانظروا في خصلة واحدة تفعلونها مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها براً، فهذا وجه اتصاله بما قبله. ويحتمل أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت الحج لأنه كان من أفعالهم في الحج، ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم وإن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخل من ظهره، والمعنى ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله.

{ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰبِهَا } وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا، أو المراد وجوب الاعتقاد بأن جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ } [الأنبياء: 23] { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فيم أمركم به ونهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لتفوزوا بالنعيم السرمدي.

{ وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } المقاتلة في سبيل الله الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين { ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ } يناجزونكم القتال دون المحاجزين وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله تعالى: { { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } [التوبة: 36] وقيل: هي أول آية نزلت في القتال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف، أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء، أو الكفرة كلهم لأنهم قاصدون لمقاتلة المسلمين فهم في حكم المقاتلة { وَلاَ تَعْتَدُواْ } في ابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عنه من النساء والشيوخ ونحوهما أو بالمثلة { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ * وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } وجدتموهم. والثقف الوجود على وجه الأخذ والغلبة { وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي من مكة وعدهم الله تعالى فتح مكة بهذه الآية وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح { وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } أي شركهم بالله أعظم من القتل الذي يحل بهم منكم. وقيل: الفتنة عذاب الآخرة. وقيل: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان فيعذب به أشد عليه من القتل. وقيل لحكيم: ما أشد من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت. فقد جعل الإخراج من الوطن من الفتن التي يتمنى عندها الموت. { وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِيهِ } أي ولا تبدأوا بقتالهم في الحرم حتى يبدأوا فعندنا المسجد الحرم يقع على الحرم كله { فَإِن قَـٰتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } في الحرم فعندنا يقتلون في الأشهر الحرم لا في الحرم إلا أن يبدأوا بالقتال معنا فحينئذ نقتلهم وإن كان ظاهر قوله «واقتلوهم حيث ثقفتموهم» يبيح القتل في الأمكنة كلها لكن لقوله «ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه» خص الحرم إلا عند البداءة منهم كذا في شرح التأويلات { كَذٰلِكَ جَزَاءُ ٱلْكَـٰفِرِينَ } مبتدأ وخبر. «ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم»: حمزة وعلي { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الشرك والقتال { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } لما سلف من طغيانهم { رَّحِيمٌ } بقبول توبتهم وإيمانهم. { وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } شرك و«كان» تامة و«حتى» بمعنى «كي» أو «إلى أن» { وَيَكُونَ ٱلدّينُ للَّهِ } خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب أي لا يعبد دونه شيء { فَإِنِ ٱنتَهَواْ فَلاَ عُدْوٰنَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } فإن امتنعوا عن الكفر فلا تقاتلوهم فإنه لا عدوان إلا على الظالمين ولم يبقوا ظالمين، أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين، سمى جزاء الظالمين ظلماً للمشاكلة كقوله { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }. قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ } مبتدأ خبره { بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ } أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم { وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ } أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أي حرمة كانت اقتص منه بأن تهتك له حرمه، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا وأكد ذلك بقوله { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } من شرطية والباء غير زائدة والتقدير بعقوبة مماثلة لعدوانهم، أو زائدة وتقديره عدواناً مثل عدوانهم { وَٱتَّقُواْ ٱللهَ } في حال كونكم منتصرين فمن اعتدى عليك فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم. { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } بالنصر { وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } تصدقوا في رضا الله وهو عام في الجهاد وغيره { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } أي أنفسكم والباء زائدة، أو ولا تقتلوا أنفسكم بأيديكم كما يقال «أهلك فلان نفسه بيده» إذا تسبب لهلاكها. والمعنى النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله، أو عن الإخطار بالنفس، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدو والتهلكة والهلاك والهلك واحدة { وَأَحْسِنُواْ } الظن بالله في الإخلاف { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } إلى المحتاجين.

{ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وأدوهما تأمين بشرائطهما وفرائضهما لوجه الله تعالى بلا توان ولا نقصان. وقيل: الإتمام يكون بعد الشروع فهو دليل على أن من شرع فيهما لزمه إتمامهما وبه نقول: إن العمرة تلزم بالشروع. ولا تمسك للشافعيرحمه الله بالآية على لزوم العمرة لأنه أمر بإتمامها، وقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع أو إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أو أن تفرد لكل واحد منهما سفراً أو أن تنفق فيهما حلالاً أو أن لا تتجر معهما { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } يقال أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز، وحصر إذا حبسه عدو عن المضي. وعندنا الإحصار يثبت بكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما لظاهر النص، وقد جاء في الحديث من كسر أو عرج فقد حل أي جاز له أن يحل وعليه الحج من قابل. وعند الشافعيرحمه الله : الإحصار بالعدو وحده. وظاهر النص يدل على أن الإحصار يتحقق في العمرة أيضاً لأنه ذكر عقبهما { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ } فما تيسر منه. يقال يسر الأمر واستيسر كما يقال صعب واستصعب. والهدي جمع هدية يعني فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدى من بعير أو بقرة أو شاة «فما» رفع بالابتداء أي فعليكم ما استيسر، أو نصب أي فأهدوا له ما استيسر { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ } الخطاب للمحصرين أي لا تحلوا بحلق الرأس حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب نحره فيه وهو الحرم، وهو حجة لنا في أن دم الإحصار لا يذبح إلا في الحرم على الشافعيرحمه الله إذ عنده يجوز في غير الحرم { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى الحلق { أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } وهو القمل أو الجراحة { فَفِدْيَةٌ } فعليه إذا حلق فدية { مِّن صِيَامٍ } ثلاثة أيام { أَوْ صَدَقَةٍ } على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر { أَوْ نُسُكٍ } شاة وهو مصدر أو جمع نسيكة { فَإِذَا أَمِنتُمْ } الإحصار أي فإذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة { فَمَن تَمَتَّعَ } استمتع { بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ } واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل انتفاعه بالتقرب بالحج. وقيل: إذا حل من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرماً عليه إلى أن يحرم بالحج { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ } هو هدي المتعة، وهو نسك يؤكل منه ويذبح يوم النحر.

{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الهدي { فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ } فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت الحج وهو أشهره ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } في وقوعها بدلاً من الهدي أو في الثواب، أو المراد رفع الإبهام فلا يتوهم في الواو أنها بمعنى الإباحة كما في «جالس الحسن وابن سيرين»، ألا ترى أنه لو جالسهما أو واحداً منهما كان ممتثلاً { ذٰلِكَ } إشارة إلى التمتع عندنا إذ لا تمتع ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندنا، وعند الشافعيرحمه الله إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئاً { لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } هم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فيما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } لمن لم يتقه.

{ ٱلْحَجُّ } أي وقت الحج كقولك «البرد شهران» { أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ } معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم وهي شوال وذو القعدة وعشر ذو الحجة. وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها وكذا الإحرام عند الشافعيرحمه الله ، وعندنا وإن انعقد لكنه مكروه، وجمعت أي الأشهر لبعض الثالث، أو لأن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى: { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 4] { فَمَن فَرَضَ } ألزم نفسه بالإحرام { فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ } في هذه الأشهر { فَلاَ رَفَثَ } هو الجماع أو ذكره عند النساء أو الكلام الفاحش { وَلاَ فُسُوقَ } هو المعاصي أو السباب لقوله عليه السلام "سباب المؤمن فسوق" أو التنابز بالألقاب لقوله تعالى: { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ } [الحجرات: 11] { وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ } ولامراء مع الرفقاء والخدم والمكارين. وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب في كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن. والمراد بالنفي وجوب انتفائها وأنها حقيقة بأن لاتكون. وقرأ أبو عمرو ومكي الأولين بالرفع فحملاهما على معنى النهي كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث بالنصب على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج. ثم حث على الخير عقيب النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البر والتقوى، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة بقوله تعالى: { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } اعلم بأنه عالم به يجازيكم عليه ورد قول من نفى علمه بالجزئيات. كان أهل اليمن لا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيكونون كلاً على الناس فنزل فيهم { وَتَزَوَّدُواْ } أي تزودوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم { فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } أي الإتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم، أو تزودوا للمعاد باتقاء المحظورات فإن خير الزاد اتقاؤها { وَٱتَّقُونِ } وخافوا عقابي وهو مثل { دَعَانِ } [البقرة: 186] { يأُوْلِي ٱلالْبَـٰبِ } يا ذوي العقول يعني أن قضية اللب تقوى الله ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له.

ونزل في قوم زعموا أن لا حج لجمال وتاجر وقالوا هؤلاء الداجّ وليسوا بالحاج { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ } في أن تبتغوا في مواسم الحج { فَضْلاً مّن رَّبِّكُمْ } عطاء وتفضلاً وهو النفع والربح بالتجارة والكراء { فَإِذَا أَفَضْتُم } دفعتم بكثرة من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول { مّنْ عَرَفَـٰتٍ } هي علم للموقف سمي بجمع كأذرعات. وإنما صرفت لأن التاء فيها ليست للتأنيث بل هي مع الألف قبلها علامة جمع المؤنث، وسميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما رآها عرفها. وقيل: التقى فيها آدم وحواء فتعارفا، وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأن الإفاصة لا تكون إلا بعده { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات أو بصلاة المغرب والعشاء { عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ } هو قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة. والمشعر المعلم لأنه معلم العبادة، ووصف بالحرام لحرمته. وقيل: المشعر الحرام مزدلفة، وسميت المزدلفة جمعاً لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها، أو لأنه يجمع فيها بين الصلاتين، أو لأن الناس يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف فيها { وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } «ما» مصدرية أوكافة اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة، أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ولا تعدلوا عنه { وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ } من قبل الهدى { لَمِنَ ٱلضَّالِّينَ } الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه و«إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس ولا تكن من المزدلفة. قالوا: هذا أمر لقريش بالإفاضة من عرفات إلى جمع وكانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفات ويقولون: نحن قطان حرمه فلا نخرج منه. وقيل: الإفاضة من عرفات مذكورة فهي الإفاضة من جمع إلى منى. والمراد بالناس على هذا الجنس ويكون الخطاب للمؤمنين { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم أو من تقصيركم في أعمال الحج { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بكم { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ } فإذا فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ونفرتم { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ } أي فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم. والمعنى فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم. وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعددون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } أي أكثر. وهو في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله «كذكركم» كما تقولون كذكر قريش آباءَهم أو قوم أشد منهم ذكراً و«ذكراً» تمييز.

{ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } فمن الذين يشهدون الحج من يسأل الله حظوظ الدنيا فيقول { رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا } اجعل إيتاءنا أي إعطاءنا في الدنيا خاصة يعني الجاه والغنى { وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ } نصيب لأن همه مقصور على الدنيا لكفره بالآخرة. والمعنى أكثروا ذكر الله ودعاءه لأن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا أغراض الدنيا، ومكثر يطلب خير الدارين فكونوا من المكثرين أي من الذين قيل فيهم { وَمِنْهُمُ } ومن الذين يشهدون الحج { مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } نعمة وعافية، أو علماً وعبادة. { وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } عفواً ومغفرة، أو المال والجنة، أو ثناء الخلق ورضا الحق، أو الإيمان والأمان، أو الإخلاص والخلاص، أو السنة والجنة، أو القناعة والشفاعة، أو المرأة الصالحة والحور العين، أو العيش على سعادة والبعث من القبور على بشارة. { وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } احفظنا من عذاب جهنم، أو عذاب النار امرأة السوء. { أُوْلَـٰئِكَ } أي الداعون بالحسنتين { لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ } من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، أو سمى الدعاء كسباً لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب، ويجوز أن يكون أولئك للفريقين وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدل على كمال قدرته ووجوب الحذر من نقمته. وروي أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة وروي في مقدار لمحة.