{ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودٰتٍ } هي أيام التشريق وذكر الله فيها التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار { فَمَن تَعَجَّلَ } فمن عجل في النفر أو استعجل النفر. وتعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل. يقال تعجل في الأمر واستعجل ومتعديين يقال تعجل الذهاب واستعجله والمطاوعة أوفق لقوله و«من تأخر» { فِى يَوْمَيْنِ } من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } فلا يأثم بهذا التعجل { وَمَن تَأَخَّرَ } حتى رمى في اليوم الثالث { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ } الصيد أو الرفث والفسوق أو هو مخير في التعجل. والتأخر وإن كان التأخر أفضل فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل. وقيل: كان أهل الجاهلية فريقين منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً فورد القرآن بنفي المأثم عنهما { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في جميع الأمور { وَٱعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } حين يبعثكم من القبور. كان الأخنس بن شريق حلو المنطق إذا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال يعلم الله أني صادق فنزل فيه.
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس { فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } «في» يتعلق بالقول أي يعجبك ما يقول في معنى الدنيا لأنه يطلب بادعاء المحبة حظ الدنيا ولا يريد به الآخرة، أو بـ «يعجبك» أي يعجبك حلو كلامه في الدنيا لا في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } أي يحلف ويقول الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام { وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } شديد الجدال والعداوة للمسلمين، والخصام والمخاصمة والإضافة بمعنى في لأن «أفعل» يضاف إلى ما هو بعضه تقول: زيد أفضل القوم ولا يكون الشخص بعض الحدث فتقديره ألد في الخصومة، أو الخصام جمع خصم كصعب وصعاب والتقدير: وهو أشد الخصوم خصومة. { وَإِذَا تَوَلَّىٰ } عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق { سَعَىٰ فِى ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ } كما فعل بثقيف فإنه كان بينه وبينهم خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم { فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } أي الزرع والحيوان، أو إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل. وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الخرث والنسل. { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ } للأخنس { ٱتَّقِ ٱللَّهَ } في الإفساد والإهلاك { أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإثْمِ } حملته النخوة وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه وألزمته ارتكابه، أو الباء للسبب أي أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه وهو الكفر { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أي كافيه { وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أي الفراش جهنم.
ونزل في صهيب حين أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه فاشترى نفسه بماله منهم وأتى المدينة، أو فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ } يبيعها { ٱبْتِغَاء } لابتغاء { مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَءُوفٌ بِٱلْعِبَادِ } حيث أثابهم على ذلك { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسّلْمِ } وبفتح السين حجازي وعلي، وهو الاستسلام والطاعة أي استسلموا لله وأطيعوه أو الإسلام، والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم، أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم { كَافَّةً } لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته حال من الضمير في «ادخلوا» أي جميعاً، أو من السلم لأنها تؤنث كأنهم أمروا أن يدخلوا في الطاعات كلها، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها، وكافة من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } وساوسه { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة { فَإِن زَلَلْتُمْ } ملتم عن الدخول في السلم { مّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ } أي الحجج الواضحة والشواهد اللائحة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق { فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } غالب لا يمنعه شيء من عذابكم { حَكِيمٌ } لا يعذب إلا بحق. ورُوي أن قارئاً قرأ «غفور رحيم» فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال ليس هذا من كلام الله إذ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل والعصيان لأنه إغراء عليه.
{ هَلْ يَنظُرُونَ } ما ينتظرون { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ } أي أمر الله وبأسه كقوله:
{ أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } [النحل: 33]. { فَجَاءهَا بَأْسُنَا } [الأعراف: 4] أو المأتي به محذوف بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه للدلالة عليه بقوله: «فاعلموا أن الله عزيز» { فِي ظُلَلٍ } جمع ظلة وهي ما أظلك { مِّنَ ٱلْغَمَامِ } الحساب. وهو للتهويل إذ الغمام مظنة الرحمة أنزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول { وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ } أي وتأتي الملائكة الذين وكلوا بتعذيبهم أو المراد حضورهم يوم القيامة { وَقُضِىَ ٱلأَمْرُ } أي وتم أمر إهلاكهم وفرغ منه { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } أي أنه ملّك العباد بعض الأمور فترجع إليه الأمور يوم النشور. «ترجع الأمور» حيث كان: شامي وحمزة وعلي. { سَلْ } أصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين بعد حذفها واستغني عن همزة الوصل فصار «سل». وهو أمر للرسول أو لكل أحد وهو سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة. { بَنِى إِسْرٰءِيلَ كَمْ آتَيْنَـٰهُم مّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } على أيدي أنبيائهم وهي معجزاتهم أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام. و«كم» استفهامية أو خبرية { وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } هي آياته وهي أجل نعمة من الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة وتبديلهم إياها، إن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم فـجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125] أو حرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد عليه السلام { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ } من بعد ما عرفها وصحت عنده لأنه إذا لم يعرفها فكأنها غائبة عنه { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } لمن استحقه. { زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها، أو الله تعالى يخلق الشهوات فيهم ولأن جميع الكائنات منه ويدل عليه قراءة من قرأ «زين للذين كفروا الحياة الدنيا» { وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين كابن مسعود وعمار وصهيب ونحوهم أي لا يريدون غير الدنيا وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها أو ممن يطلب غيرها { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } عن الشرك وهم هؤلاء الفقراء { فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } لأنهم في جنة عالية وهم في نار هاوية { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقتير يعني أنه يوسع على من أراد التوسعة عليه كما وسع على قارون وغيره، وهذه التوسعة عليكم من الله لحكمة وهي استدارجكم بالنعمة ولو كانت كرامة لكان المؤمنون أحق بها منكم { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً } متفقين على دين الإسلام من آدم إلى نوح عليهما السلام، أو هم نوح ومن كان معه في السفينة فاختلفوا { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ } ويدل على حذفه قوله تعالى:
{ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } [البقرة: 213] وقراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» وقوله تعالى: { { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ } [يونس: 19] أو كان الناس أمة واحدة كفاراً فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم والأول الأوجه { مُبَشّرِينَ } بالثواب للمؤمنين { وَمُنذِرِينَ } بالعقاب للكافرين وهما حالان { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } أي مع كل واحد منهم كتابه { بِٱلْحَقّ } بتبيان الحق { لِيَحْكُمَ } الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه { بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } في دين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق. { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ } في الحق { إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ } أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ } على صدقه { بَغْياً بَيْنَهُمْ } مفعول له أي حسداً بينهم وظلماً لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم { فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي هدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف فيه { مِنَ ٱلْحَقِّ } بيان لما اختلفوا فيه { بِإِذْنِهِ } بعلمه { وَٱللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاء إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } { أَمْ حَسِبْتُمْ } أم منقطعة لا متصلة لأن شرطها أن يكون قبلها همزة الاستفهام كقولك «أعندك زيد أم عمرو» أي أيهما عندك؟ وجوابه زيد إن كان عنده زيد، أوعمرو إن كان عنده عمرو. وأما «أم» المنقطعة فتقع بعد الاستفهام وبعد الخبر وتكون بمعنى بل والهمزة، والتقدير: بل أحسبتم ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده. لما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له، قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ أم حسبتم { أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم } أي ولم يأتكم وفي «لما» معنى التوقع يعني أن إتيان ذلك متوقع منتظر. { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ } مضوا أي حالهم التي هي مثل في الشدة { مِن قَبْلِكُمْ } من النبيين والمؤمنين { مَسَّتْهُمْ } بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال: كيف كان ذلك المثل فقيل: مستهم { ٱلْبَأْسَاء } أي البؤس { وَٱلضَّرَّاء } المرض والجوع { وَزُلْزِلُواْ } وحركوا بأنواع البلايا وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة { حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ } إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه من المؤمنين فيها { مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك، ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمان الشدة فقيل لهم { أَلا إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } إجابة لهم إلى طلبهم من عاجل النصر. «يقول» بالرفع: نافع على حكاية حال ماضية نحو «شربت الإبل حتى يجـيء البعير يجر بطنه». وغيره بالنصب على إضمار «أن» ومعنى الاستقبال لأن «أن» علم له. ولما قال عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير وله مال عظيم: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ نزل.