خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٥٢
تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
٢٥٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٥٤
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٥٦
ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٥٧
-البقرة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ } إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في هذه السورة من آدم إلى داود أو التي ثبت علمها عند رسول الله عليه السلام { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } بالخصائص وراء الرسالة لاستوائهم فيها كالمؤمنين يستوون في صفة الإيمان ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان. ثم بين ذلك بقوله { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } أي كلمه الله حذف العائد من الصلة يعني منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ } مفعول أول { دَرَجَـٰتٌ } مفعول ثانٍ أي بدرجـات أو إلى درجات يعني ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المفضل عليهم بإرساله إلى الكافة، وبأنه أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف أو أكثر، وأكبرها القرآن لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر. وفي هذا الإبهام تفخيم وبيان أنه العلم الذي لا يشتبه على أحد، والمتميز الذي لا يلتبس. وقيل: أريد به محمد وإبراهيم وغيرهما من أولي العزم من الرسل { وَءَاتَيْنَا عِسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتُ } كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك { وَأَيَّدْنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } قويناه بجبريل أو بالإنجيل { وَلَوْ شَاءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ } أي ما اختلف لأنه سببه { ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم } من بعد الرسل { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ } المعجزات الظاهرات { وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ } بمشيئتي. ثم بين الاختلاف فقال { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } بمشيئتي. يقول الله أجريت أمور رسلي على هذا، أي لم يجتمع لأحد منهم طاعة جميع أمته في حياته ولا بعد وفاته بل اختلفوا عليه فمنهم من آمن ومنهم من كفر { وَلَوْ شَاءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ } كرره للتأكيد أي لو شئت أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا إذ لا يجري في ملكي إلا ما يوافق مشيئتي، وهذا يبطل قول المعتزلة لأنه أخبر أنه لو شاء أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا وهم يقولون شاء أن لا يقتتلوا فاقتتلوا { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } أثبت الإرادة لنفسه كما هو مذهب أهل السنة. { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُم } في الجهاد في سبيل الله، أو هو عام في كل صدقة واجبة { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } أي من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه { وَلاَ خُلَّةٌ } حتى يسامحكم أخلاؤكم به { وَلاَ شَفَـٰعَةٌ } أي للكافرين، فأما المؤمنون فلهم شفاعة أو إلا بإذنه { وَٱلْكَـٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } أنفسهم بتركهم التقديم ليوم حاجاتهم، أو الكافرون بهذا اليوم هم الظالمون. «لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة»: مكي وبصري { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } «لا» مع اسمه وخبره وما أبدل من موضعه في موضع الرفع خبر المبتدأ وهو «الله» { ٱلْحَىُّ } الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء { ٱلْقَيُّومُ } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } نعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور { وَلاَ نَوْمٌ } عن المفضل: السنة ثقل في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب وهو تأكيد للقيوم، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً، وقد أوحى إلى موسى عليه السلام: قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا. { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ملكاً وملكاً { مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ليس لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وهو بيان لملكوته وكبريائه، وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام، وفيه رد لزعم الكفار أن الأصنام تشفع لهم { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ } من معلومه يقال في الدعاء «اللهم اغفر علمك فينا» أي معلومك { إِلاَّ بِمَا شَاءَ } إلا بما علم { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي علمه ومنه الكراسة لتضمنها العلم والكراسي العلماء، وسمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم وهو كقوله تعالى: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } [غافر: 7] أو ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك أو عرشه كذا عن الحسن، أو هو سرير دون العرش في الحديث "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بفلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة" أو قدرته بدليل قوله { وَلاَ يَئُودُهُ } ولا يثقله ولا يشق عليه { حِفْظُهُمَا } حفظ السموات والأرض { وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ } في ملكه وسلطانه { ٱلْعَظِيمُ } في عزه وجلاله أو العلي المتعالي عن الصفات التي لا تليق به العظيم، المتصف بالصفات التي تليق به، فهما جامعان لكمال التوحيد. وإنما ترتبت الجمل في آية الكرسي بلا حرف عطف لأنها وردت على سبيل البيان؛ فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه، والثانية لكونه مالكاً لما يدبره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق، والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره. وإنما فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد، منه ما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجـعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله" وقال عليه السلام " سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي" وقال "ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة" وقال " من قرأ آية الكرسي عند منامه بعث إليه ملك يحرسه حتى يصبح" وقال " من قرأ هاتين الآيتين حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح، وإن قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي: آية الكرسي وأول حم المؤمن إلى { إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } " لاشتمالهما على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذاكراً له كان أفضل من سائر الأذكار وبه يعلم أن أشرف العلوم علم التوحيد.

{ لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ } أي لا إجبار على الدين الحق وهو دين الإسلام. وقيل: هو إخبار في معنى، النهي، ورُوي أنه كان لأنصاري ابنان فتنصرا فلزمهما أبوهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري: يا رسول الله أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر؟ فنزلت فخلاهما. قال ابن مسعود وجماعة: كان هذا في الابتداء ثم نسخ بالأمر بالقتال { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ } بالشيطان أو الأصنام { وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ } تمسك { بِٱلْعُرْوَةِ } أي المعتصم والمتعلق { ٱلْوُثْقَىٰ } تأنيث الأوثق أي الأشد من الحبل الوثيق المحكم المأمون { لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا } لا انقطاع للعروة، وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده، والمعنى فقد عقد لنفسه من الدين عقداً وثيقاً لا تحله شبهة { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لإقراره { عَلِيمٌ } باعتقاده.

{ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } أرادوا أن يؤمنوا أي ناصرهم ومتولي أمورهم { يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ } من ظلمات الكفر والضلالة وجمعت لاختلافها { إِلَى ٱلنُّورِ } إلى الإيمان والهداية ووحد لاتحاد الإيمان { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } مبتدأ والجملة وهي { أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ } خبره { يُخْرِجُونَهُم مّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ } وجمع لأن الطاغوت في معنى الجمع يعني والذين صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك، أو الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبهة في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين، والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات الذي يظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة { أُولَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ }. ثم عجب نبيه عليه السلام وسلاه بمجادلة إبراهيم عليه السلام نمرود الذي كان يدعي الربوبية بقوله.