{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَاجَّ إِبْرٰهِيمَ فِى رِبّهِ } في معارضته ربوبية ربه. والهاء في «ربه» يرجع إلى إبراهيم أو إلى الذي حاج فهو ربهما { أَنْ آتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ }
لأنّ آتاه الله يعني أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر فحاج لذلك، وهو دليل على المعتزلة في الأصلح أوحاج وقت أن أتاه الله الملك { إِذْ قَالَ } نصب بـ «حاج» أو بدل من «أن آتاه» إذا جعل بمعنى الوقت { إِبْرٰهِيمُ رَبّيَ } «رب»: حمزة { ٱلَّذِى يُحِْيى وَيُمِيتُ } كأنه قال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيـي ويميت { قَالَ } نمرود { أَنَاْ أُحْيِى وَأُمِيتُ } يريد أعفو عن القتل وأقتل فانقطع اللعين بهذا عند المخاصمة فزاد إبراهيم عليه السلام ما لا يتأتى فيه التلبيس على الضعفة حيث { قَالَ إِبْرٰهِيمُ } عليه السلام { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } وهذا ليس بانتقال من حجة إلى حجة كما زعم البعض لأن الحجة الأولى كانت لازمة، ولكن لما عاند اللعين حجة الإحياء بتخلية واحد وقتل آخر، كلمه من وجه لا يعاند، وكانوا أهل تنجيم، وحركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم، والحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية كتحريك الماء النمل على الرحى إلى غير جهة حركة النمل فقال: إن ربي يحرك الشمس قسراً على غير حركتها، فإن كنت رباً فحركها بحركتها فهو أهون { فَبُهِتَ ٱلَّذِى كَفَرَ } تحير ودهش { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي لا يوفقهم وقالوا: إنما لم يقل نمرود فليأت ربك بالشمس من المغرب لأن الله تعالى صرفه عنه. وقيل: إنه كان يدعي الربوبية لنفسه وما كان يعترف بالربوبية لغيره. ومعنى قوله «أنا أحيـي وأميت» أن الذي ينسب إليه الإحياء والإماتة أنا لا غيري، والآية تدل على إباحة التكلم في علم الكلام والمناظرة فيه لأنه قال: «ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه». والمحاجة تكون بين اثنين فدل على أن إبراهيم حاجه أيضاً، ولو لم يكن مباحاً لما باشرها إبراهيم عليه السلام لكون الأنبياء عليهم السلام معصومين عن ارتكاب الحرام، ولأنا أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإيمان بالله وتوحيده وإذا دعوناهم إلى ذلك لا بد أن يطلبوا منا الدليل على ذلك، وذا لا يكون إلا بعد المنظارة كذا في شرح التأويلات.
{ أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ } معناه أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة «لم تر» عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب، أو هو محمول على المعنى دون اللفظ تقديره: أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر. وقال صاحب الكشف: فيه الكاف زائدة و«الذي» عطف على قوله «إلى الذي حاج» عن الحسن أن المار كان كافراً بالبعث لانتظامه مع نمرود في سلك ولكلمة الاستبعاد التي هي «أنى يحيـي» والأكثر أنه عزير أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام و«أنى يحيـي» اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياة واستعظام لقدرة المحيي { عَلَىٰ قَرْيَةٍ } هي بيت المقدس حين خربه بختنصر وهي التي خرج منها الألوف { وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } ساقطة مع سقوفها أو سقطت السقوف ثم سقطت عليها الحيطان وكل مرتفع عرش { قَالَ أَنَّىٰ يُحْىِ } أي كيف { هَـٰذِهِ } أي أهل هذه { ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } أي أحياه { قَالَ } له ملك { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بناء على الظن، وفيه دليل جواز الاجـتهاد روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال قبل النظر إلى الشمس «يوماً»، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال «أو بعض يوم» { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَٱنظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ } روي أن طعامه كان تيناً وعنباً وشرابه عصيراً ولبناً فوجد التين والعنب كما جنيا والشراب على حاله { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم يتغير والهاء أصلية أو هاء سكت واشتقاقه من السنة على الوجهين، لأن لامها هاء لأن الأصل سنهة والفعل سانهت. يقال سانهت فلاناً أي عاملته سنة أو واو لأن الأصل سنوة والفعل سانيت ومعناه لم تغيره السنون. «لم يتسن» بحذف الهاء في الوصل وبإثباتها في الوقف: حمزة وعلي { وَٱنظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ } كيف تفرقت عظامه ونخرت وكان له حمار قد ربطه فمات وتفتتت عظامه، أو وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير { وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ } فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه. وقيل: الواو عطف على محذوف أي لتعتبر ولنجعلك. قيل: أتى قومه راكباً حماراً وقال: أنا عزير فكذبوه فقال: هاتوا التوراة فأخذ يقرؤها عن ظهر قلبه ولم يقرأ التوراة ظاهر أحد قبل عزير فذلك كونه آية. وقيل: رجـع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب { وَٱنظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ } أي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم { كَيْفَ نُنشِزُهَا } نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب.«ننشرها» بالراء: حجازي وبصري نحييها «ثمّ نكسوها» أي العظام «لحماً» جعل اللحم كاللباس مجازاً «فلمّا تبيّن له» فاعله مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير { قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقولهم «ضربني وضربت زيداً» ويجوز فلما تبين له ما أشكل عليه يعني أمر إحياء الموتى. «قال اعلم» على لفظ الأمر: حمزة وعلي أي قال الله له اعلم أو هو خاطب نفسه.
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ أَرِنِى } بصرني { كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } موضع «كيف» نصب بـ « تحيـي» { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } وإنما قال له «أو لم تؤمن» وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. و«بلى» إيجاب لما بعد النفي معناه بلى آمنت ولكن لأزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة فعلم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف الضروري. واللام تتعلق بمحذوف تقديره ولكن سألت ذلك أراد طمأنينة القلب { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } وبكسر الصاد: حمزة أي أملهن واضممهن إليك { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِ ّجَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك وفي أرضك وكانت أربعة أجبل أو سبعة. «جزأ» بضمتين وهمز: أبو بكر { ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ } قل لهن تعالين بإذن الله { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } مصدر في موضع الحال أي ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن. وإنما أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئآتها وحلاّها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك، وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال عل كل جبل ربعاً من كل طائر، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله تعالى فجـعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها { وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } لا يمتنع عليه ما يريده { حَكِيمٌ } فيما يدبر لا يفعل إلا ما فيه الحكمة، ولما برهن على قدرته على الإحياء حث على الإنفاق في سبيل الله، وأعلم أن من أنفق في سبيله فله في نفقته أجر عظيم وهو قادر عليه فقال:
{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } لا بد من حذف مضاف أي مثل نفقتهم { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } أو مثلهم كمثل باذر حبة { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ } المنبت هو الله ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منه سبع شعب لكل واحد سنبلة، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر والممثل به موجود في الدخن والذرة وربما فرخت ساق البرة في الأرض القوية المغلة فيبلغ حبها هذا المبلغ، على أن التمثيل يصح وإن لم يوجد على سبيل الفرض، والتقدير ووضع سنابل موضع سنبلات كوضع قروء موضع أقراء { وَٱللَّهُ يُضَـٰعِفُ لِمَن يَشَاء } أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين، أو يزيد على سبعمائة لمن يشاء. «يضعّف»: شامي و«يضعّف»: مكي { وَٱللَّهُ وٰسِعٌ } واسع الفضل والجود { عَلِيمٌ } بنيات المنفقين. { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا } هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاً له وكانوا يقولون إذا صنعتم صنيعة فانسوها { وَلا أَذًى } هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه. ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وأن تركهما خير من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله
{ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } [فصلت: 30] { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أي ثواب إنفاقهم { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من بخس الأجر { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من فوته، أو لا خوف من العذاب ولا حزن بفوت الثواب. وإنما قال هنا: «لهم أجرهم» وفيما بعد «فلهم أجرهم» لأن الموصول هنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة. { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } رد جميل { وَمَغْفِرَةٌ } وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول، أو ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل { خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى } وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة { وَٱللَّهُ غَنِىٌّ } لا حاجة له إلى منفق يمن ويؤذي { حَلِيمٌ } عن معاجلته بالعقوبة وهذا وعيد له.
ثم أكد ذلك بقوله { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلْمَنّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِى } الكاف نصب صفة مصدر محذوف والتقدير إبطالاً مثل إبطال الذي { يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } أي لا تبطلوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يريد بإنفاقه رضا الله ولا ثواب الآخرة، ورئاء مفعول له { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } مثّله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بحجر أملس عليه تراب { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } مطر عظيم القطر { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه { لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ } لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا، أو الكاف في محل النصب على الحال أي لا تطلبوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق. وإنما قال «لا يقدرون» بعد قوله «كالذي ينفق» لأنه أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } ما داموا مختارين الكفر.
{ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَاء مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ } أي وتصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه. و«من» لابتداء الغاية وهو معطوف على المفعول له أي للإبتغاء والتثبيت، والمعنى ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله { كَمَثَلِ جَنَّةٍ } بستان { بِرَبْوَةٍ } مكان مرتفع، وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً «بربوة»: عاصم وشامي { أَصَابَهَا وَابِلٌ فَئَاتَتْ أُكُلُهَا } ثمرتها «أكلها»: نافع ومكي وأبو عمرو { ضِعْفَيْنِ } مثلي ما كانت تثمر قبل بسبب الوابل { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها، أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها رضا الله تعالى زاكية عند الله زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يرى أعمالكم على إكثار وإقلال ويعلم نياتكم فيهما من رياء وإخلاص. الهمزة في { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ } للإنكار { أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } بستان { مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ لَهُ } لصاحب البستان { فِيهَا } في الجنة { مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها، أو أن النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما ثم أردفهما ذكر كل الثمرات. { وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ } الواو للحال ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر، والواو في { وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء } أولاد صغار للحال أيضاً، والجملة في موضع الحال من الهاء في «أصابه» { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } ريح تستدير في الأرض ثم تستطع نحو السماء كالعمود { فِيهِ } في الإعصار وارتفع { نَّارٌ } بالظرف إذ جرى الظرف وصفاً لإعصار { فَٱحْتَرَقَتْ } الجنة، وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة رياء فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة جامعة للثمار فبلغ الكبر وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم فهلكت بالصاعقة { كَذٰلِكَ } كهذا البيان الذي بين فيما تقدم { يُبيّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَـٰتِ } في التوحيد والدين { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } فتنتبهوا.
{ تَتَفَكَّرُونَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـٰتِ مَا كَسَبْتُمْ } من جياد مكسوباتكم، وفيه دليل وجوب الزكاة في أموال التجارة { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ ٱلأَرْضِ } من الحب والثمر والمعادن وغيرها والتقدير: ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } ولا تقصدوا المال الرديء { مِنْهُ تُنفِقُونَ } تخصونه بالإنفاق وهو في محل الحال أي ولا تيمموا الخبيث منفقين أي مقدرين النفقة { وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ } وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم { إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك «أغمض فلان عن بعض حقه» إذا غض بصره، ويقال للبائع «أغمض» أي لا تستقص كأنك لا تبصر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه. { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ } عن صدقاتكم { حَمِيدٌ } مستحق للحمد أو محمود.
{ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَعِدُكُمُ } في الإنفاق { ٱلْفَقْرَ } ويقول لكم إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا، والوعد يستعمل في الخير والشر { وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَاء } ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل { وَٱللَّهُ يَعِدُكُم } في الإنفاق { مَّغْفِرَةً مّنْهُ } لذنوبكم وكفارة لها { وَفَضْلاً } وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم، أو وثواباً عليه في الآخرة { وَٱللَّهُ وٰسِعٌ } يوسع على من يشاء { عَلِيمٌ } بأفعالكم ونياتكم. { يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء } علم القرآن والسنة، أو العلم النافع الموصل إلى رضا الله والعمل به، والحكيم عند الله هو العالم العامل { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ } «ومن يؤت»: يعقوب أي ومن يؤته الله الحكمة { فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } تنكير تعظيم أي أوتي خيراً أيّ خير كثير. { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } وما يتعظ بمواعظ الله إلا ذوو العقول السليمة أو العلماء العمال، والمراد به الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق.{ وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ } في سبيل الله أو في سبيل الشيطان { أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ } في طاعة الله أو في معصيته { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ } لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه { وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ } الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي أو ينذرون في المعاصي أو لا يفون بالنذور { مِنْ أَنصَارٍ } ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه. { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَـٰتِ فَنِعِمَّا هِىَ } فنعم شيئاً إبداؤها و «ما» نكرة غير موصولة ولا موصوفة، والمخصوص بالمدح «هي». فنعما «هي» بكسر النون وإسكان العين: أبوعمرو ومدني غير ورش. وبفتح النون وكسر العين: شامي وحمزة وعلي. وبكسر النون والعين: غيرهم. { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَاء } وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فالإخفاء خير لكم. قالوا: المراد صدقات التطوع والجهر في الفرائض أفضل لنفي التهمة حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل، والمتطوع إن أراد أن يقتدي به كان إظهاره أفضل. { وَيُكَفّرْ } بالنون وجزم الراء: مدني وحمزة وعلي. بالياء ورفع الراء: شامي وحفص. وبالنون والرفع: غيرهم. فمن جزم فقد عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط، ومن رفع فعلى الاستئناف والياء على معنى يكفر الله. { عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ } والنون على معنى نحن نكفر { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الإبداء والإخفاء { خَبِيرٌ } عالم.