خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٢١
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٢
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ
٢٣
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢٤
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٢٥
قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٦
تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٢٧
لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٢٨
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٩
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٣٠
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣١
قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ
٣٢
إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٣٣
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٣٤
إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٥
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
٣٦
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٧
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ
٣٨
فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٣٩
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
٤٠
-آل عمران

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيّينَ } هم أهل الكتاب رضوا بقتل آبائهم الأنبياء { بِغَيْرِ حَقّ } حال مؤكدة لأن قتل النبي لا يكون حقاً { وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ } «ويقاتلون»: حمزة { بِٱلْقِسْطِ } بالعدل { مِنَ ٱلنَّاسِ } أي سوى الأنبياء. قال عليه السلام "قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم" { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } دخلت الفاء في خبر «إن» لتضمن اسمها معنى الجزاء كأنه قيل: الذين يكفرون فبشرهم بعذاب أليم بمعنى من يكفر فبشرهم، وهذا لأن «إن» لا تغير معنى الابتداء فهي للتحقيق فكأن دخولها كلا دخول ولو كان مكانها «ليت» أو «لعل» لامتنع دخول الفاء { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ } أي ضاعت { فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ } فلهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة { وَمَا لَهُم مّن نَّـٰصِرِينَ } جمع لوقف رؤوس الآي وإلا فالواحد النكرة في النفي يعم.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } يريد أحبار اليهود وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة. «ومن» للتبعيض أو للبيان { يُدْعُونَ } حال من «الذين» { إِلَىٰ كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } أي التوراة أو القرآن { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } جعل حاكماً حيث كان سبباً للحكم أو ليحكم النبي. روي أنه عليه السلام دخل مدراسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت؟ قال النبي عليه السلام: "على ملة إبراهيم" قالا: إن إبراهيم كان يهودياً. قال لهما: إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها فأبيا { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مّنْهُمْ } استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب { وَهُم مُّعْرِضُونَ } وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودٰتٍ } أي ذلك التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل وهي أربعون يوماً أو سبعة أيام و«ذلك» مبتدأ «وبأنهم» خبره { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي غرهم افتراؤهم على الله وهو قولهم «نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا بذنوبنا إلا مدة يسيرة».

{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـٰهُمْ لِيَوْمٍ } فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } جزاء ما كسبت { وَهُمْ } يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس { لاَ يُظْلَمُونَ } بزيادة في سيئاتهم ونقصان في حسناتهم.

{ قُلِ ٱللَّهُمَّ } الميم عوض من «يا» ولذا لا يجتمعان، وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه، وفيه لام التعريف وبقطع همزته في «يا الله» وبالتفخيم { مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ } تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون وهو نداء ثانٍ أي يا مالك الملك { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَاءُ } تعطي من تشاء النصيب الذي قسمت له من الملك { وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ } أي تنزعه فالملك الأول عام والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل. "روي أنه عليه السلام حين فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقالت اليهود والمنافقون: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك" فنزلت { وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ } بالملك { وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } بنزعه منه { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } أي الخير والشر فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، أو لأن الكلام وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعداءك { إِنَّكَ عَلَىٰ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ولا يقدر على شيء أحد غيرك إلا بإقدارك. وقيل: المراد بالملك ملك العافية أو ملك القناعة. قال عليه السلام "ملوك الجنة من أمتي القانعون بالقوت يوماً فيوماً" أو ملك قيام الليل. وعن الشبلي: الاستغناء بالمكون عن الكونين تعز بالمعرفة أو بالاستغناء بالمكون أو بالقناعة وتذل بأضدادها. ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب بقوله { تُولِجُ ٱلَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيْلِ } فالإيلاج إدخال الشيء في الشيء وهو مجاز هنا أي تنقص من ساعات الليل وتزيد في النهار، وتنقص من ساعات النهار وتزيد في الليل { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ } الحيوان من النطفة، أو الفرخ من البيضة، أو المؤمن من الكافر { وَتُخْرِجُ ٱلَمَيّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } النطفة من الإنسان، أو البيض من الدجاج، أو الكافر من المؤمن { وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } لا يعرف الخلق عدده ومقداره وإن كان معلوماً عنده، ليدل على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم. وفي بعض الكتب: أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. وهو معنى قولهم عليه السلام "كما تكونوا يولى عليكم الحي من الميت والميت من الحي" بالتشديد حيث كان: مدني وكوفي غير أبي بكر.

{ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ } نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو لصداقة قبل الإسلام أو غير ذلك، وقد كرر ذلك في القرآن والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم في الإيمان. { مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ } أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً } إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه أي إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان المعاداة { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } أي ذاته فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } أي مصيركم إليه والعذاب معد لديه وهو وعيد آخر.

{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى الله { يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } ولم يخف عليه وهو أبلغ وعيد { وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } استئناف وليس بمعطوف على جواب الشرط أي هو الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض فلا يخفى عليه سركم وعلنكم { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيكون قادراً على عقوبتكم { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بعيداً } «يوم» منصوب بـ «تود» والضمير في «بينه» لليوم أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً أي مسافة بعيدة، أو بـ «اذكر» ويقع «تجد» على «ما عملت» وحده ويرتفع «وما عملت» على الابتداء و«تود» خبره أي والذي عملته من سوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه، ولا يصح أن تكون «ما» شرطية لارتفاع «تود»، نعم الرفع جائز إذا كان الشرط ماضياً لكن الجزم هو الكثير. وعن المبرد أن الرفع شاذ. وكرر قوله { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه { وَٱللَّهُ رَءُوفٌ بِٱلْعِبَادِ } ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه حتى لا يتعرضوا لسخطه، ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذوراً لكمال قدرته مرجو لسعة رحمته كقوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [فصلت: 43]. ونزل حين قال اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه. { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } محبة العبد لله إيثار طاعته على غير ذلك، ومحبة الله العبد أن يرضى عنه ويحمد فعله. وعن الحسن: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب وكتاب الله يكذبه. وقيل: محبة الله معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به وبذكره ودوام الأنس به. وقيل: هي اتباع النبي عليه السلام في أقواله وأفعاله وأحواله إلا ما خص به. وقيل: علامة المحبة أن يكون دائم التفكير، كثير الخلوة، دائم الصمت، لا يبصر إذا نظر، ولا يسمع إذا نودي، ولا يحزن إذا أصيب، ولا يفرح إذا أصاب، ولا يخشى أحداً ولا يرجوه { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } قيل: هي علامة المحبة { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن قبول الطاعة، ويحتمل أن يكون مضارعاً أي فإن تتولوا { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي لا يحبهم.

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَى } اختار { ءَادَمَ } أبا البشر { وَنُوحاً } شيخ المرسلين { وآلَ إبراهيم } إسماعيل وإسحاق وأولادهما { وآل عمران } موسى وهارون هما ابنا عمران بن يصهر. وقيل: عيسى ومريم بنت عمران ابن ماثان وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة { عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } على عالمي زمانهم { ذُرِّيَّةَ } بدل من «آل إبراهيم وآل عمران» { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } مبتدأ وخبره في موضع النصب صفة لـ «ذرية» يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض: موسى وهارون من عمران، وعمران من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوي، ولاوي من يعقوب، ويعقوب من إسحاق، وكذلك عيسى بن مريم بنت عمران بن ماثان وهو يتصل بيهودا بن يعقوب بن إسحاق، وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: بعضها من بعض في الدين { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعلم من يصلح للإصطفاء، أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها { إِذْ قَالَتِ } «وإذ» منصوب به أو بإضمار «اذكر». { ٱمْرَأَتُ عِمْرٰنَ } هي امرأة عمران بن ماثان أم مريم جدة عيسى وهي حنة بنت فاقوذا { رَبِّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ } أوجبت { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } هو حال من «ما» وهي بمعنى الذي أي معتقاً لخدمة بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه، وكان هذا النوع من النذر مشروعاً عندهم أو مخلصاً للعبادة يقال «طين حر» أي خالص { فَتَقَبَّلْ مِنّي } «منّي» مدني وأبو عمر، والتقبل: أخذ الشيء على الرضا به { إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير لـ «ما في بطني» وإنما أنّث على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة { قَالَتْ رَبِّ إِنّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ } «أنثى» حال من الضمير في «وضعتها» أي وضعت الحبلة أو النفس أو النسمة أنثى، وإنما قالت هذا القول لأن التحرير لم يكن إلا للغلمان فاعتذرت عما نذرت وتحزنت إلى ربها ولتكلمها بذلك على وجه التحزن والتحسر قال الله { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعها أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عزائم الأمور. «وضعتُ»: شامي وأبو بكر بمعنى ولعل لله فيه سراً وحكمة، وعلى هذا يكون داخلاً في القول. وعلى الأول يوقف عند قوله «أنثى» وقوله: «والله أعلم بما وضعت». ابتداء إخبار من الله تعالى { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ } الذي طلبت { كَٱلأُنثَىٰ } التي وهبت لها واللام فيهما للعهد { وَإِنّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } معطوف على «إني وضعتها أنثى» وما بينهما جملتان معترضتان. وإنما ذكرت حنة تسميتها مريم لربها لأن مريم في لغتهم العابدة، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها وأن يصدق فيها ظنها بها، ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان بقوله { وَإِنّي } «وإنّي» مدني { أُعِيذُهَا بِكَ } أجيرها { وَذُرِّيَّتَهَا } أولادها { مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ } الملعون في الحديث "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها" { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } قبل الله مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } قيل: القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط لما يسعط به وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل قبلها أنثى في ذلك، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة. روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي أختها. فقالوا: لا حتى نقترع عليها. فانطلقوا ــ وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر ــ فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها. وقيل: هو مصدر على تقدير حذف المضاف أي فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } مجاز عن التربية الحسنة، قال ابن عطاء: ما كانت ثمرته مثل عيسى فذاك أحسن النبات. «ونباتاً» مصدر على خلاف الصدر أو التصدير فنبتت نباتاً { وَكَفَّلَهَا } «وكفلها»: قبلها أو ضمن القيام بأمرها. وكفّلها: كوفي أي كفلها الله زكريا يعني جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها { زَكَرِيَّا } بالقصر: كوفي غير أبي بكر في كل القرآن. وقرأ أبو بكر بالمد والنصب هنا. غيرهم بالمد والرفع كالثانية والثالثة ومعناه في العبري: دائم الذكر والتسبيح { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ } قيل: بنى لها زكريا محراباً في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلم. وقيل: المحراب أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثدياً قط فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء { قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } فلا تستبعد. قيل: تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد { إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ } من جملة كلام مريم أو من كلام رب العالمين { بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقدير لكثرته أو تفضلاً بغير محاسبة ومجازاة على عمل.

{ هُنَالِكَ } في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت فقد يستعار «هنا» و «حيث» و «ثم» للزمان. لما رأى حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها رغب أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أمها حنة في الكرامة على الله، وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أمها كذلك. وقيل: لما رأى الفاكهة في غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً } ولداً والذرية يقع على الواحد والجمع { طَيِّبَةً } مباركة والتأنيث للفظ الذرية { إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَاءِ } مجيبه { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـئِكَةُ } قيل: ناداه جبريل عليه السلام. وإنما قيل «الملائكة» لأن المعنى أتاه النداء من هذا الجنس كقولهم «فلان يركب الخيل». «فناديه» بالياء والإمالة: حمزة وعلي { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي ٱلْمِحْرَابِ } وفيه دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات، وفيها إجابة الدعوات وقضاء الحاجات. وقال ابن عطاء: ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب { إِنَّ ٱللَّهَ } بكسر الألف: شامي وحمزة وعلى إضمار القول، أو لأن النداء قول. الباقون: بالفتح أي بأن الله { يُبَشّرُكَ } «يبشرك» وما بعده: حمزة وعلي من بشره والتخفيف والتشديد لغتان { بِيَحْيَـىٰ } هو غير منصرف إن كان عجمياً وهو الظاهر فللتعريف والعجمة كموسى وعيسى، وإن كان عربياً فللتعريف ووزن الفعل كـ «يعمر» { مُصَدِّقاً } حال منه { بِكَلِمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ } أي مصدقاً بعيسى مؤمناً به فهو أول من آمن به. وسمي عيسى كلمة الله لأن تكون بـ «كن» بلا أب، أو مصدقاً بكلمة من الله مؤمناً بكتاب منه { وَسَيّدًا } هو الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف، وكان يحيـى فائقاً على قومه لأنه لم يركب سيئة قط ويا لها من سيادة. وقال الجنيد: هو الذي جاد بالكونين عوضاً عن المكون { وَحَصُورًا } هو الذي لا يقرب النساء مع القدرة حصراً لنفسه أي منعاً لها من الشهوات { وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } ناشئاً من الصالحين لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَـٰمٌ } استبعاد من حيث العادة واستعظام للقدرة لا تشكك { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ } كقولهم «أدركته السن العالية» أي أثر فيَّ الكبر وأضعفني وكان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعون { وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } لم تلد { قَالَ كَذٰلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } من الأفعال العجيبة.