خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً
٢٠
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً
٢١
وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً
٢٢
مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً
٢٣
لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٤
وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً
٢٥
وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً
٢٦
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢٧
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً
٢٨
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً
٢٩
يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
-الأحزاب

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ولم ينصرفوا مع أنهم قد انصرفوا { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } كرة ثانية { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى ٱلأَعْرَابِ } البادون جمع البادي أي يتمنى المنافقون لجبنهم أنهم خارجون من المدينة إلى البادية حاصلون بين الأعراب ليأمنوا على أنفسهم ويعتزلوا مما فيه الخوف من القتال { يُسْـئَلُونَ } كل قادم منهم من جانب المدينة { عَنْ أَنبَائِكُمْ } عن أخباركم وعما جرى عليكم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ } ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال { مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } رياء وسمعة.

{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } بالضم حيث كان: عاصم أي قدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به كما تقول «في البيضة عشرون مناً حديداً» أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. أو فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها حيث قاتل بنفسه { لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } أي يخاف الله ويخاف اليوم الآخر أو يأمل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر. قالوا { لِمَنْ } بدل من { لَكُمْ } وفيه ضعف لأنه لا يجوز البدل من ضمير المخاطب. وقيل: { لِمَنْ } يتعلق بـ { حَسَنَةٌ } أي أسوة حسنة كائنة لمن كان { وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } أي في الخوف والرجاء والشدة والرخاء { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه بقوله { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } إلى قوله { قَرِيبٌ } [البقرة: 214] فلما جاء الأحزاب واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } وعلموا أن الغلبة والنصرة قد وجبت لهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم في آخر تسع ليال أو عشر. فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك، وهذا إشارة إلى الخطب والبلاء { وَمَا زَادَهُمْ } ما رأوا من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم { إِلاَّ إِيمَانًا } بالله وبمواعيده { وَتَسْلِيماً } لقضائه وقدره.

{ مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي فيما عاهدوه عليه فحذف الجار كما في المثل «صدقني سن بكره» أي صدقني في سن بكره بطرح الجار وإيصال الفعل. نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة وسعد بن زيد وحمزة ومصعب وغيرهم { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي مات شهيداً كحمزة ومصعب. وقضاء النحب صار عبارة عن الموت لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته فإذا مات فقد قضى نحبه أي نذره { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } الموت أي على الشهادة كعثمان وطلحة { وَمَا بَدَّلُواْ } العهد { تَبْدِيلاً } ولا غيروه لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، وفيه تعريض لمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلوب كما مر في قوله تعالى: { وَلَقَدْ كَانُواْ عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَـٰرَ } { لّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } بوفائهم بالعهد { وَيُعَذّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ إِن شَاء } إذا لم يتوبوا { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } إن تابوا { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً } بقبول التوبة { رَّحِيماً } بعفو الحوبة. جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبها والسعي في تحصيلها.

{ وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الأحزاب { بِغَيْظِهِمْ } حال أي مغيظين كقوله { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [المؤمنون: 20] { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } ظفراً أي لم يظفروا بالمسلمين وسماه خيراً بزعمهم وهو حال أي غير ظافرين { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بالريح والملائكة { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } قادراً غالباً.

{ وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَـٰهَرُوهُم } عاونوا الأحزاب { مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } من بني قريظة { مِن صَيَاصِيهِمْ } من حصونهم الصيصية ما تحصن به. " رُوي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم، على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: من متابعة قريش. فقال: يا رسول الله إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا وإنهم لكم طعمة. فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة. فحاصروهم خمساً وعشرين ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلون على حكمي" فأبوا، فقال: "على حكم سعد بن معاذ" فرضوا به فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل: كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } الخوف وبضم العين: شامي وعلي. ونصب { فَرِيقاً } بقوله { تَقْتُلُونَ } وهم الرجال { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } وهم النساء والذراري { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـٰرَهُمْ وَأَمولَهُمْ } أي المواشي والنقود والأمتعة. "روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال لهم إنكم في منازلكم" { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } بقصد القتال وهي مكة أو فارس والروم أو خيبر أو كل أرض تفتح إلى يوم القيامة { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيراً } قادراً.

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَزْوٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } أي السعادة في الدنيا وكثرة الأموال { فَتَعَالَيْنَ } أصل تعال أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطيء، ثم كثر حتى استوى في استعماله الأمكنة، ومعنى { تعالين } أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد الأمرين، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن كقوله «قام يهددني». { أُمَتّعْكُنَّ } أعطكن متعة الطلاق وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوضة قبل الوطء { وَأُسَرّحْكُنَّ } وأطلقكن { سَرَاحاً جَمِيلاً } لا ضرار فيه أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم اختار جميعهن اختيارها. وروي أنه قال لعائشة: "إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك" ثم قرأ عليها القرآن فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وحكم التخيير في الطلاق أنه إذا قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي أن تقع تطليقة بائنة، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء. وعن علي رضي الله عنه: إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـٰتِ مِنكُنَّ } «من» للبيان لا للتبعيض. { أَجْراً عَظِيماً يٰنِسَاء ٱلنَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـٰحِشَةٍ } سيئة بليغة في القبح { مُّبَيّنَةٍ } ظاهر فحشها. من بيّن بمعنى تبين وبفتح الياء: مكي وأبو بكر. قيل: هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن. وقيل: الزنا والله عاصم رسوله من ذلك { يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ } { يُضَـٰعِِّفُ لَهَا ٱلْعَذَابُ } مكي وشامي { يُضَـٰعَّفُ } أبو عمرو ويزيد ويعقوب { ضِعْفَيْنِ } ضعفي عذاب غيرهن من النساء لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح ولذا فضل حد الأحرار على العبيد ولا يرجم الكافر { وَكَانَ ذٰلِكَ } أي تضعيف العذاب عليهن { عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } هيناً.