خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ
١٤
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
١٥
فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ
١٦
ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ
١٧
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ
١٨
فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
١٩
-سبأ

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ } أي على سليمان { مَا دَلَّهُمْ } أي الجن وآل داود { عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ } أي الأرضة وهي دويبة يقال لها صرفة والأرض فعلها فأضيفت إليه. يقال: أرضت الخشبة أرضاً إذا أكلتها الأرضة { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } والعصا تسمى منسأة لأنه ينسأ بها أي يطرد، و { مِنسَأَتَهُ } بغير همز: مدني وأبو عمرو { فَلَمَّا خَرَّ } سقط سليمان { تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ } علمت الجن كلهم علماً بيناً بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ } بعد موت سليمان { فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } وروي أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه، فلما بقي من عمره سنة سأل ربه أن يعمي عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة، ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة فبقي في ملكه أربعين سنة وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. وروي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه.

{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } بالصرف بتأويل الحي، وبعدمه: أبو عمرو بتأويل القبيلة { فِى مَسْكَنِهِمْ } حمزة وحفص { مَسْكَنِهِمْ } علي وخلف وهو موضع سكناهم وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها باليمن أو مسكن كل واحد منهم، غيرهم { مَسَـٰكِنِهِمْ } { ءايَةً } اسم كان { جَنَّتَانِ } بدل من { ءايَةً } أو خبر مبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان، ومعنى كونهما آية أن أهلها لما أعرضوا عن شكر الله سلبهم الله النعمة ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم، أو جعلهما آية أي علامة دالة على قدرة الله وإحسانه ووجوب شكره { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بساتين البلاد العامرة، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ } حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم، أو لما قال لهم لسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك. ولما أمرهم بذلك أتبعه قوله { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره. قال ابن عباس: كانت سبأ على ثلاث فراسخ من صنعاء وكانت أخصب البلاد، تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر فيمتليء المكتل مما يتساقط فيه من الثمر وطيبها ليس فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، ومن يمر بها من الغرباء يموت قمله لطيب هوائها.

{ فَأَعْرِضُواْ } عن دعوة أنبيائهم فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } أي المطر الشديد أو العرم اسم الوادي أو هو الجرذ الذي نقب عليهم السّكر لما طغوا سلط الله عليهم الجرذ فنقبه من أسفل فغرقهم { وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـتَيْهِمْ } المذكورتين { جَنَّتَيْنِ } وتسمية البدل جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام كقوله { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [الشورى: 40] { ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ } الأكل الثمر يثقل ويخفف وهو قراءة نافع ومكي، والخمط شجر الأراك، وقيل: كل شجر ذي شوك { وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } الأثل شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عوداً، ووجه من نون الأكل ـ وهو غير أبي عمرو ـ أن أصله ذواتي أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل: ذواتي أكل بشع، ووجه أبي عمر أن أكل الخمط في معنى البرير وهو ثمر الأراك إذا كان غضاً فكأنه قيل ذواتي برير، والأثل والسدر معطوفان على { أَكَلَ } لا على { خَمْطٍ } لأن الأثل لا أكل له. وعن الحسن: قلل السدر لأنه أكرم ما بدلوا لأنه يكون في الجنان { ذَلِكَ جَزَيْنَـٰهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } أي جزيناهم ذلك بكفرهم فهو مفعول ثان مقدم { وَهَلْ نُجَازِىِ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } كوفي غير أبي بكر. { وَهَلْ نُجازَى إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } غيرهم يعني وهل نجازي مثل هذا الجزاء إلا من كفر النعمة ولم يشكرها أو كفر بالله، أو هل يعاقب لأن الجزاء وإن كان عاماً يستعمل في معنى المعاقبة وفي معنى الإثابة لكن المراد الخاص وهو العقاب. وعن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام.

{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم } بين سبإٍ { وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا } بالتوسعة على أهلها في النعم والمياه وهي قرى الشام { قُرًى ظَـٰهِرَةً } متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو ظاهرة للسابلة لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم وهي أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبإٍ إلى الشام { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } أي جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم يقيل المسافر في قرية ويروح في أخرى إلى أن يبلغ الشام { سِيرُواْ فِيهَا } وقلنا لهم سيروا ولا قول ثمة، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه فكأنهم أمروا بذلك { ليالي وأياماً آمنين } أي سيروا فيها إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات أي سيروا فيها آمنين لا تخافون عدواً ولا جوعاً ولا عطشاً وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت أياماً وليالي { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } قالوا يا ليتها كانت بعيدة فنسير على نجائبنا، ونربح في التجارات ونفاخر في الدواب والأسباب، بطروا النعمة وملوا العافية فطلبوا الكد والتعب، { بَعْدَ } مكي وأبو عمرو { وَظَلَمُواْ } بما قالوا { أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ } يتحدث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم { وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } وفرقناهم تفريقاً اتخذه الناس مثلاً مضروباً يقولون «ذهبوا أيدي سبأ» و «تفرقوا أيادي سبأ» فلحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ } عن المعاصي { شَكُورٍ } للنعم أو لكل مؤمن لأن الإيمان نصفان نصفه شكر ونصفه صبر.