خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ
١٩
لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ
٢٠
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
٢١
أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٢
ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٢٣
أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
٢٤
كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٥
فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٢٦
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٧
قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٢٨
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٩
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ
٣٠
-الزمر

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى ٱلنَّارِ } أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب أي وجب { أَفَأَنتَ } جملة شرطية دخلت عليها همزة الانكار والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف تقديره: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الانكار. ووضع { مَن فِى ٱلنَّارِ } موضع الضمير أي تنقذه، فالآية على هذا جملة واحدة، أو معناه: أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه، أفأنت تنقذه أي لا يقدر أحد أن ينقذ من أضله الله وسبق في علمه أنه من أهل النار { لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ } أي لهم منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل أرفع منها يعني للكفار ظلل من النار وللمتقين غرف { مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } أي من تحت منازلها { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ } وعد الله مصدر مؤكد، لأن قوله { لَهُمْ غُرَفٌ } في معنى وعدهم الله ذلك.

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } يعني المطر. وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله { فَسَلَكَهُ } فادخله { يَنَابِيعَ فِى ٱلأَرْضِ } عيوناً ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد. و { يَنَابِيعَ } نصب على الحال أو على الظرف و { فِى ٱلأَرْضِ } صفة لـ { يَنَابِيعَ }. { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ } بالماء { زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض أو أصنافه من بن وشعير وسمسم وغير ذلك { ثُمَّ يَهِـيجُ } يجف { فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً } بعد نضارته وحسنه { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَـٰماً } فتاتاً متكسراً، فالحطام ما تفتت وتكسر من النبت وغيره { إِنَّ فِى ذَٰلِكَ } في إنزال الماء وإخراج الزرع { لَذِكْرَىٰ لأُِوْلِى ٱلأَلْبَـٰبِ } لتذكيراً وتنبيهاً على أنه لا بد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير لا عن إهمال وتعطيل { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ } أي وسع صدره { لِلإِسْلَـٰمِ } فاهتدى، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرح فقال: " إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح فقيل: فهل لذلك من علامة؟ قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت" { فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبّهِ } بيان وبصيرة، والمعنى: أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فقسا قلبه؟ فحذف لأن قوله { فَوَيْلٌ لِّلْقَـٰسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } يدل عليه { مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي من ترك ذكر الله أو من أجل ذكر الله أي إذا ذكر الله عندهم أو آياته ازدادت قلوبهم قساوة كقوله { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125] { أُوْلَـئِكَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } غواية ظاهرة.

{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } في إيقاع اسم { ٱللَّهِ } مبتدأ وبناء { نَزَّلَ } عليه تفخيم لأحسن الحديث { كِتَـٰباً } بدل من { أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } أو حال منه { مُّتَشَـٰبِهاً } يشبه بعضه بعضاً في الصدق والبيان والوعظ والحكمة والإعجاز وغير ذلك { مَّثانِىَ } نعت { كِتَـٰباً } جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه، فهو بيان لكونه متشابهاً لأن القصص المكررة وغيرها لا تكون إلا متشابهة. وقيل: لأنه يثنّى في التلاوة فلا يمل. وإنما جاز وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته، ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات؟ فكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات. أو منصوب على التمييز من { مُّتَشَـٰبِهاً } كما تقول: رأيت رجلاً حسناً شمائل، والمعنى متشابهة مثانية { تَقْشَعِرُّ } تضطرب وتتحرك { مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } يقال: اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً. والمعنى أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، وفي الحديث "إذا اقشعر جلد المؤمن من خشية الله تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها" { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي إذا ذكرت آيات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة. وعُدي بـ «إلى» لتضمنه معنى فعل متعد بـ «إلى» كأنه قيل: اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة. واقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة، لأن رحمته سبقت غضبه فلأصالة رحمته إذا ذكر الله لم يخطر بالبال إلا كونه رءوفاً رحيماً. وذكرت الجلود وحدها أولاً ثم قرنت بها القلوب ثانياً لأن محل الخشية القلب فكان ذكرها يتضمن ذكر القلوب { ذٰلِكَ } إشارة إلى الكتاب وهو { هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ } من عباده وهو من علم منهم اختيار الاهتداء { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ } يخلق الضلالة فيه { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } إلى الحق.

{ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } كمن أمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره وسوء العذاب شدته، ومعناه أن الإنسان إذا لقي مخوفاً من المخاوف استقبله بيده وطلب أن يقي بها وجهه لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه { وَقِيلَ لِلظَّـلِمِينَ } أي تقول لهم خزنة النار { ذُوقُواْ } وبال { مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي كسبكم { كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من قبل قريش { فَأَتَـٰهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بيناهم آمنون إذ فوجئوا من مأمنهم { فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْىَ } الذل والصغار كالمسخ والخسف والقتل والجلاء ونحو ذلك من عذاب الله { فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبْرُ } من عذاب الدنيا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } لآمنوا.

{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ليتعظوا { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً } حال مؤكدة كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً وإنساناً عاقلاً، فتذكر رجلاً أو إنساناً توكيداً، أو نصب على المدح { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف. ولم يقل «مستقيماً» للإشعار بأن لا يكون فيه عوج قط. وقيل: المراد بالعوج الشك { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الكفر.

{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً } بدل { فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَـٰكِسُونَ } متنازعون ومختلفون { وَرَجُلاً سَلَماً } مصدر سلم والمعنى ذا سلامة { لِرَجُلٍ } أي ذا خلوص له من الشركة. { سالماً } مكي وأبو عمرو أي خالصاً له { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } صفة وهو تمييز، والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالاهما. وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقريء { مثلين }. { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } الذي لا إله إلا هو { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } فيشركون به غيره. مثل الكافر ومعبوديه بعبد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع واختلاف، وكل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى وهو متحير لا يدري أيهم يرضي بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته، وممن يطلب رزقه، وممن يلتمس رفقه، فهمه شعاع وقلبه أوزاع، والمؤمن بعبد له سيد واحد فهّمه واحد وقلبه مجتمع { إِنَّكَ مَيِّتٌ } أي ستموت { وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } وبالتخفيف من حل به الموت، قال الخليل أنشد أبو عمرو:

وتسألني تفسير ميت وميّت فدونك قد فسرت إن كنت تعقلُ
فمن كان ذا روح فذلك ميت وما الميت إلا من إلى القبر يحملُ

كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته فأخبر أن الموت يعمهم فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني، وعن قتادة: نعى إلى نبيه نفسه ونعى إليكم أنفسكم أي إنك وإياهم في عداد الموتى لأن ما هو كائن فكأن قد كان.