خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ
٢
غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ
٤
كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
٥
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ
٦
ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ
٧
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٨
وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
١٠
-غافر

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ حـم } وما بعده بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيـى وحماد، وبني الفتح والكسر: مدني، وغيرهم بالتفخيم، وعن ابن عباس أنه اسم الله الأعظم { تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ } أي هذا تنزيل الكتاب { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ } أي المنيع بسلطانه عن أن يتقول عليه متقول { ٱلْعَلِيمِ } بمن صدق به وكذب، فهو تهديد للمشركين وبشارة للمؤمنين { غَافِرِ ٱلذَّنبِ } ساتر ذنب المؤمنين { وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } قابل توبة الراجعين { شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ } على المخالفين { ذِى ٱلطَّوْلِ } ذي الفضل على العارفين أو ذي الغنى عن الكل، وعن ابن عباس: غافر الذنب وقابل التوب لمن قال لا إله إلا الله، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله. والتوب والثوب والأوب أخوات في معنى الرجوع، والطول الغنى والفضل، فإن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً والموصوف معرفة؟ قلت: أما غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين حتى يكونا في تقدير الانفصال فتكون إضافتهما غير حقيقية. وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه، وأما شديد العقاب فهو في تقدير شديد عقابه فتكون نكرة، فقيل هو بدل.

وقيل: لما وجدت هذه النكرة بين هذه المعارف آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف. وإدخال الواو في { وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } لنكتة وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محّاءة للذنوب كأن لم يذنب كأنه قال: جامع المغفرة والقبول، ورُوي أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان: سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. بسم الله الرحمن الرحيم { حـم } إلى قوله { إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }. وختم الكتاب قال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته. فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا له الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه.

{ لآ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } صفة أيضاً لـ { ذِى ٱلطَّوْلِ } ويجوز أن يكون مستأنفاً { إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } المرجع { مَا يُجَـٰدِلُ فِى ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ما يخاصم فيها بالتكذيب بها والإنكار لها، وقد دل على ذلك في قوله { وَجَـٰدَلُوا بِٱلْبَـٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } [غافر: 5] فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها واستنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها فأعظم جهاد في سبيل الله { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ } بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة سالمين غانمين فإن عاقبة أمرهم إلى العذاب، ثم بين كيف ذلك فأعلم أن الأمم الذين كذبت قبلهم أهلكت فقال { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } نوحاً { وَٱلأَحْزَابُ } أي الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم { مِّن بَعْدِهِمْ } من بعد قوم نوح { وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ } من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب { بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } ليتمكنوا منه فيقتلوه. والأخيذ: الأسير { وَجَـٰدَلُوا بِٱلْبَـٰطِلِ } بالكفر { لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } ليبطلوا به الإيمان { فَأَخَذَتْهُمْ } مظهر: مكي وحفص يعني أنهم قصدوا أخذه فجعلت جزاءهم على إرادة أخذ الرسل أن أخذتهم فعاقبتهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } وبالياء: يعقوب. أي فإنكم تمرون على بلادهم فتعاينون أثر ذلك، وهذا تقرير فيه معنى التعجيب { وَكَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } { كَلِمَـٰتُ رَبكَ } مدني وشامي { أَنَّهُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ } في محل الرفع بدل من { كلمة ربك } أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار، ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة. أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل و{ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } قريش، ومعناه كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء؛ لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار، ويلزم الوقف على النار.لأنه لو وصل لصار

{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } يعني حاملي العرش والحافين حوله وهم الكروبيون سادة الملائكة صفة لأصحاب النار وفساده ظاهر. رُوي أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورءوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وفي الحديث "إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة" وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو «يسبح بما لا يسبح به الآخر». { يُسَبِّحُونَ } خبر المبتدأ وهو { ٱلَّذِينَ } { بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أي مع حمده إذ الباء تدل على أن تسبيحهم بالحمدلة { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } وفائدته مع علمنا بأن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله: { { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [البلد: 17]. فأبان بذلك فضل الإيمان، وقد روعي التناسب في قوله: { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ }.

{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } كأنه قيل: ويؤمنون به ويستغفرون لمن في مثل حالهم، وفيه دليل على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة، وإن تباعدت الأجناس والأماكن { رَبَّنَا } أي يقولون ربنا وهذا المحذوف حال { وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } والرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، إذ الأصل وسع كل شيء رحمتك وعلمك، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم وأخرجا منصوبين على التمييز مبالغة في وصفه بالرحمة والعلم { فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ } أي للذين علمت منهم التوبة لتناسب ذكر الرحمة والعلم { وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } أي طريق الهدى الذي دعوت إليه { وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ } «من» في موضع نصب عطف على «هم» في { وَأَدْخِلْهُمْ } أو في { وَعَدْتَّهُمْ } والمعنى وعدتهم ووعدت من صلح من آبائهم { وَأَزْوٰجِهِمْ وَذُرِّيَّـٰتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي الملك الذي لا يغلب، وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئاً خالياً من الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك { وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَـٰتِ } أي جزاء السيئات وهو عذاب النار { وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَـٰتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ } أي رفع العذاب { هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }. { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ } أي يوم القيامة إذا دخلوا النار ومقتوا أنفسهم فيناديهم خزنة النار { لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ } أي لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة، والمقت أشد البغض، وانتصاب { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَـٰنِ } بالمقت الأول عند الزمخشري، والمعنى أنه يقال لهم يوم القيامة: كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم، وأنتم في النار إذا وقعتم فيها باتباعكم هواهن، وقيل: معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض كقوله: { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [العنكبوت: 25]، و { إِذْ تَدْعُونَ } تعليل، وقال جامع العلوم وغيره: «إذ» منصوب بفعل مضمر دل عليه { لَمَقْتُ ٱللَّهِ } أي يمقتهم الله حين دعوا إلى الإيمان فكفروا، ولا ينتصب بالمقت الأول لأن قوله { لَمَقْتُ ٱللَّهِ } مبتدأ وهو مصدر وخبره { أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ }، فلا يعمل في { إِذْ تَدْعُونَ }؛ لأن المصدر إذا أخبر عنه لم يجز أن يتعلق به شيء يكون في صلته لأن الإخبار عنه يؤذن بتمامه، وما يتعلق به يؤذن بنقصانه، ولا بالثاني لاختلاف الزمانين، وهذا لأنهم مقتوا أنفسهم في النار وقد دعوا إلى الإيمان في الدنيا { فَتَكْفُرُونَ } فتصرون على الكفر.