خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩٢
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
٩٣
-الأنعام

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله تعالى: { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } يعني: وهذا القرآن كتاب أنزلناه من عندنا عليك يا محمد كثير الخير والبركة دائم النفع يبشر المؤمنين بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية. وأصل البركة: النماء والزيادة وثبوت الخير { مصدق الذي بين يديه } يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء على الأنبياء يعني أنه موافق لما في التوراة والإنجيل وسائر الكتب، لأنها اشتملت جميعها على التوحيد والتنزيه لله من كل عيب ونقيصه وتدل على البشارة والنذارة فثبت بذلك كون القرآن مصدقاً لجميع الكتب المنزلة { ولتنذر } قرئ بالتاء يعني ولتنذر يا محمد وبالياء ومعناه ولينذر الكتاب { أم القرى } يعني مكة وفيه حذف تقديره ولتنذر أهل القرى وسميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها. قاله ابن عباس: وقيل: لأنها أقدم القرى وأعظمها بركة. وقيل: لأنها قبلة أهل الأرض { ومن حولها } يعني جميع البلاد والقرى التي حولها شرقاً وغرباً { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } يعني: والذين يصدقون بقيام الساعة وبالمعاد والبعث بعد الموت يصدقون بها الكتاب وأنه منزل من عند الله عز وجل وقيل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك أن الذي يؤمن بالآخرة يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب ومن كان كذلك فإنه يرغب في تحصيل الثواب ورد العقاب عنه وذلك لا يحصل إلا بالنظر التام فإذا نظر وتفكر علم بالضرورة أن دين محمد أشرف الأديان وشريعته أعظم الشرائع { وهم على صلواتهم يحافظون } يعني يداومون عليها في أوقاتها. والمعنى: أن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة، وفائدة تخصيص الصلاة بالذكر دون سائر العبادات، التنبيه على أنها أشرف العبادات بعد الإيمان بالله تعالى، فإذا حافظ العبد عليها يكون محافظاً على جميع العبادات والطاعات قوله عز وجل: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } يعني ومن أعظم خطأ وأجهل فعلاً ممن اختلق على الله كذباً فزعم أن الله بعثه نبياً وهو في زعمه كذاب مبطل { أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء } قال قتادة: "نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذاب بن ثمامة. وقيل مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة وكان صاحب نيرجات وكهانة وسجع ادعى النبوة باليمن وزعم أن الله أوحى إليه وكان قد أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولين: فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدان أن مسيلمة نبي؟ قالا: نعم. فقال لهما: النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " (ق).
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة" وفي لفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت في المنام كأن في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي، يقال لأحدهما: مسيلمة صاحب اليمامة والعنسي صاحب صنعاء" قوله فأوحى إليّ أن أنفخهما يروى بالخاء المهملة ومعناه الرمي والدفع من نفخت الدابة برجلها إذا دفعت ورمحت ويروى بالخاء المعجمة من النفخ يريد أنه نفخهما فطارا عنه وهو قريب من الأول فأما مسيلمة الكذاب فإنه ادعى النبوة باليمامة من اليمن وتبعه قوم من بني حنيفة وكان صاحب نيرجات فاغترّ قومه بذلك وقتل مسيلمة الكذاب في زمن خلافة أبي بكر الصديق قتله وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب وكان وحشي يقول: قتلت خير الناس يعني حمزة وقتلت شر الناس يعني مسيلمة وأما الأسود العنسي بالنون فهو عبهلة بن كعب وكان يقال له ذو الحمار ادعى النبوة باليمن في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقتل والنبي صلى الله عليه وسلم حي لم يمت وذلك قبل موته بيومين وأخبر أصحابه بقتله وقتله فيروز الديلمي فقال النبي صلى الله عليه وسلم فاز فيروز يعني بقتلة الأسود العنسي فمن قال إن هذه الآية يعني قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء } انزلت في مسيلمة الكذاب والأسود العنسي يقول: إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة وهو قول لبعض علماء التفسير تقدم ذكره في أول السورة ومن قال إن هذه الآية مكية وقال: إنها نزلت في شأنهما يقول إنها خبر عن غيب قد ظهر ذلك فيما بعد والله أعلم.
وقوله تعالى: { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } قال السدي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح القرشي وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه سميعاً بصيراً كتب عليماً حكيماً وإذا أملى عليه عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً فلما نزلت
{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [المؤمنون: 12] أملاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت فشك عبد الله بن أبي سرح وقال: لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع عبد الله بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة والنبي صلى الله عليه وسلم نازل بمر الظهران وقال ابن عباس نزل قوله ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله في المستهزئين وهو جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا. قال العلماء: وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذباً في ذلك الزمان وبعده لأنه لا يمنع خصوص السبب من عموم الحكم: { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } يعني ولو ترى يا محمد حال هؤلاء الظالمين إذ أنزل بهم الموت لرأيت أمراً عظيماً وغمراته شدائده وسكراته وغمرة كل شيء معظمه وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ثم وضعت في موضع الشدائد والمكاره { والملائكة باسطو أيديهم } يعني بالعذاب يضربون وجوههم وأدبارهم وقيل: باسطو أيديهم لقبض أرواحهم { أخرجوا أنفسكم } يعني يقولون لهم أخرجوا أنفسكم.
فإن قلت: إنه لا قدرة لأحد على إخراج روحه من بدنه فما فائدة هذا الكلام.
قلت: معناه يقولون لهم أخرجوا أنفسكم كرهاً لأن المؤمن يحب لقاء الله بخلاف الكافر وقيل معناه يقولون لهم خلصوا أنفسكم من هذا العذاب إن قدرتم على ذلك فيكون هذا القول توبيخاً لهم لأنهم لا يقدرون على خلاص أنفسهم من العذاب في ذلك الوقت { اليوم تجزون عذاب الهون } يعني الهوان { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } يعني ذلك العذاب الذي تجزونه بسبب ما كنتم تقولون على الله غير الحق { وكنتم عن آياتنا تستكبرون } يعني وبسبب ما كنتم تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه.