خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٢
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١١٣
-التوبة

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله سبحانه وتعالى: { التائبون } قال الفراء: استؤنف لفظ التائبون بالرفع لتمام الآية الأولى وانقطاع الكلام.
وقال الزجاج: التائبون رفع بالابتداء وخبره مضمر. والمعنى: التائبون إلى آخره لهم الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا غير معاندين ولا قاصدين بترك الجهاد وهذا وجه حسن فكأنه وعد بالجنة جميع المؤمنين. كما قال تعالى: وكلا وعد الله الحسنى ومن جعله تابعاً للأول، كان الوعد بالجنة خاصاً بالمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات، فيكون رفع التائبون على المدح يعني المؤمنين المذكورين في قوله: إن الله اشترى. وأما التفسير: فقوله سبحانه وتعالى التائبون يعني الذين تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق. وقيل: التائبون من كل معصية فيدخل فيه التوبة من الكفر والنفاق. وقيل: التائبون من جميع المعاصي، لأن لفظ التائبين لفظ عموم فيتناول الكل. واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل بأمور أربعة: أولها احتراق القلب عند صدور المعصية، وثانيها الندم على فعلها فيما مضى، وثالثها العزم على تركها في المستقبل، ورابعها أن يكون الحامل له على التوبة طلب رضوان الله وعبوديته فإن كان غرضه بالتوبة تحصيل مدح الناس له ودفع مذمتهم فليس بمخلص في توبته. { العابدون } يعني المطيعين لله الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم وقيل هم الذين أتوا بالعبادة على أقصى وجوه التعظيم لله تعالى وهي أن تكون العبادة خالصة لله تعالى: { الحامدون } يعني الذين يحمدون الله تعالى على كل حال في السراء والضراء.
روى البغوي بغير سند عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة، الذين يحمدون الله في السراء والضراء" . وقيل: هم الذين يحمدون الله ويقومون بشكره على جميع نعمه دنيا وأخرى { السائحون } قال ابن مسعود وابن عباس: هم الصائمون. قال سفيان بن عيينة: إنما سمي الصائم سائحاً لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح. وقال الأزهري: قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه فكان ممسكاً على الأكل وكذلك الصائم ممسك عن الأكل. وقيل: أصل السياحة استمرار الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي وقال عطاء: السائحون هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله ويدل عليه ما روي عن عثمان بن مظعون قال قلت يا رسول الله ائذن لي في السياحة. فقال: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله" ذكره البغوي بغير سند. وقال عكرمة: السائحون هم طلبة العلم لأنهم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلبه وقيل إن السياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها لأن السائح لا بد أن يلقى أنواعاً من الضر والبؤس ولا بد له من الصبر عليها ويلقى العلماء والصالحين في سياحته فيستفيد منهم ويعود عليه من بركتهم ويرى العجائب وأثار قدرة الله تعالى فيتفكر في ذلك فيدله على وحدانية الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته { الراكعون الساجدون } يعني المصلين وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود، لأنهما معظم أركانها وبهما يتميز المصلي من غير المصلي بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره { الآمرون بالمعروف } يعني يأمرون الناس بالإيمان بالله وحده { والناهون عن المنكر } يعني عن الشرك بالله. وقيل: إنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم واتباع الرشد والهدى والعمل الصالح وينهونهم عن كل قول وفعل نهى الله عباده عنه أو نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحسن: أما أنهم لم يأمروا الناس بالمعروف حتى كانوا من أهله ولم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه وأما دخول الواو في والناهون عن المنكر فإن العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله سبحانه وتعالى: وثامنهم كلبهم وقوله تعالى في صفة الجنة: وفتحت أبوابها. وقيل: فيه وجه آخر وهو أن الموصوفين بهذه الصفات الست هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فعلى هذا يكون قوله تعالى التائبون إلى قوله الساجدون مبتدأ خبره الآمرون يعني هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر { والحافظون لحدود الله } قال ابن عباس: يعني القائمين بطاعة الله وقال الحسن: الحافظون لفرائض الله وهم أهل الوفاء ببيعة الله. وقيل: هم المؤدون فرائض الله المنتهون إلى أمره ونهيه فلا يضيعون شيئاً من العمل الذي ألزمهم به ولا يرتكبون منهياً نهاهم عنه { وبشر المؤمنين } يعني بشر يا محمد المصدقين بما وعدهم الله به إذا وفوا الله تعالى بعهده فإنه موف لهم بما وعدهم من إدخال الجنة. وقيل: وبشر من فعل هذه الأفعال التسع وهو قوله تعالى التائبون إلى آخر الآية بأن له الجنة وإن لم يغز.
قوله عز وجل: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } الآية واختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية فقال قوم: نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم والد علي وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته فنهاه الله عن ذلك ويدل على ذلك ما روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن قال
" لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله ابن أبي أمية بن المغيرة فقال أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية بن المغيرة: أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان لتلك المقالة حتى قالوا: أبو طالب آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى وأنزل الله في أبي طالب { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء }" أخرجاه في الصحيحين.
فإن قلت قد استبعد بعض العلماء نزول هذه الآية في شأن أبي طالب وذلك أن وفاته كانت بمكة أول الإسلام ونزول هذه السورة بالمدينة وهي من آخر القرآن نزولاً. قلت الذي
" نزل في أبي طالب قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" كما في الحديث فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر له في بعض الأوقات إلى أن نزلت هذه الآية فمنع من الاستغفار والله أعلم بمراده وأسرار كتابه (م).
عن أبي هريرة قال
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه عند الموت: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فأبى فأنزل الله إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" الآية وفي رواية قال: لولا تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله الآية (ق)
"عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلى منه أم دماغه" وفي رواية: "يغلي منه دماغه من حرارة نعليه" (ق) "عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال: هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار وفي رواية قال قلت يا رسول الله إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال نعم وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح" وقال أبو هريرة وبريدة "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" الآية وروى الطبري بسنده عن بريدة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قال وأكثر ظني أنه قال قبر أمه فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبراً فقلنا: يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت قال إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يؤذن لي فما رؤي باكياً أكثر من يومئذ" .
وحكى ابن الجوزي عن بريدة قال " إن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أمه فتوضأ وصلى ركعتين ثم بكى فبكى الناس لبكائه ثم انصرف إليهم فقالوا: ما أبكاك؟ قال: مررت بقبر أمي فصليت ركعتين ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها فنهيت فبكيت ثم عدت فصليت ركعتين فاستأذنت ربي أن أستغفر لها فزجرت زجراً فأبكاني ثم دعا براحلته فركبها فما سار إلا هنيهة حتى قامت الناقة لثقل الوحي فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى" الآية (ق) عن أبي هريرة قال " زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت" وقال قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم " لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه" فأنزل الله هذه الآية وروى الطبري بسنده عنه قال: ذكر لنا " أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم بلى والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله عز وجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" الآية ثم عذر الله إبراهيم فقال تعالى وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه الآية عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية أخرجه النسائي والترمذي. وقال: حديث حسن وأخرجه الطبري. وقال فيه: فأنزل الله عز وجل وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه الآية ومعنى الآية ما كان ينبغي للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وليس لهم ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لا يغفر للمشركين ولا يجوز أن يطلب منه ما لا يفعله ففيه النهي عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى لأن النهي عن الاستغفار للمشركين عام فيستوي فيه القريب والبعيد ثم ذكر عز وجل سبب المنع فقال تعالى: { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } يعني تبين لهم أنهم ماتوا على الشرك فهم من أصحاب الجحيم وأيضاً فقد قال تبارك وتعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به والله تعالى لا يخلف وعده.