خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٥
-يونس

البحر المحيط

لما ذكرتعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين، فجعل الشمس ضياءً أي: ذات ضياء أو مضيئة، أو نفس الضياء مبالغة. وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير، فيكون ضياء مفعولاً ثانياً. ويحتمل أنْ تكون بمعنى خلق فيكون حالاً، والقمر نوراً أي: ذا نور، أو منور، أو نفس النور مبالغة، أو هما مصدران. وقيل: يجوز أنْ يكون ضياء جمع كحوض وحياض، وهذا فيه بعد. ولما كانت الشمسُ أعظم جرماً خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان، وهو أعظم من النور. قال أرباب علم الهيئة: الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعاً وستين مرة، والقمر ليس كذلك، فخص الأعظم بالأعظم. وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله: { { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } [البقرة: 17] وقوله تعالى: { الله نور السماوات والأرض } [النور: 35] يقتضي أنّ النور أعظم وأبلغ في الشروق، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور. فقال ابن عطية: لفظة النور أحكم أبلغ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبداً موجود في الليل وأثناء الظلام. ولو شبهه بالضياء لوجب أنْ لا يضل أحداً، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة. فمعنى الآية: أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون. ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقضت هذه الآية.

وقرأ قنبل: ضياء هنا، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء. ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لأمه عيناً، فكانت همزة. وتطرفت الواو التي كانت عيناً بعد ألف زائدة فانقلبت همزة، وضعف ذلك بأنّ القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل، والظاهر عود الضمير على القمر أي: مسيره منازل، أو قدره ذا منازل، أو قدر له منازل، فحذف وأوصل الفعل، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله: { والقمر قدرناه منازل } [يس: 39] وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعى في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما مصرفان في معرفة عدد السنين والحساب، لكنه اجتزىء بذكر أحدهما كما قال: { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [التوبة: 62] وكما قال الشاعر:

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوى رماني

والمنازل هي البروج، وكانت العرب تنسب إليها الأنواء، وهي ثمانية وعشرون منزلة: الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والدبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزبانان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلغ، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المؤخر، والرشاء وهو الحوت. واللام متعلقة بقوله: وقدره منازل. قال الأصمعي: سئل أبو عمرو عن الحساب، أفبنصبه أو بجره؟ فقال: ومن يدري ما عدد الحساب؟ انتهى. يريد أنّ الجر إنما يكون مقتضياً أنّ الحساب يكون يعلم عدده، والحساب لا يمكن أن يعلم منتهى عدده والحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي مما ينتفع به في المعاش والإجارات وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ. وقيل: اكتفى بذكر عدد السنين من عدد الشهور، وكنى بالحساب عن المعاملات، والإشارة بذلك إلى مخلوقه. وذلك يشار بها إلى الواحد، وقد يشار بها إلى الجمع. ومعنى بالحق متلبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة، ولم يخلقه عبثاً كما جاء { { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } [آل عمران: 191] { { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق } [الدخان: 38 - 39] وقال ابن جرير: الحق هنا هو الله تعالى، والمعنى: ما خلق الله ذلك إلا بالله وحده لا شريك معه انتهى. وما قاله تركيب قلق، إذ يصير ما ضرب زيد عمراً إلا بزيد. وقيل: الباء بمعنى اللام، أي للحق، وهو إظهار صنعته وبيان قدرته ودلالة على وحدانيته. وقرأ ابن مصرف: والحساب بفتح الحاء، ورواه أبو توبة عن العرب. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص: يفصل بالياء جرياً على لفظة الله، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات والإخبار بنون العظمة، وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم، لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح. والآيات العلامات الدالة أو آيات القرآن.