خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
٥٧
قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
٥٨
إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ
٥٩
إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ
٦٠
فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ
٦١
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
٦٢
قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ
٦٣
وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
٦٤
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ
٦٥
وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ
٦٦
-الحجر

البحر المحيط

لما بشروه بالولد راجعوه في ذلك، علم أنهم ملائكة الله ورسله، فاستفهم بقوله: فما خطبكم؟ الخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد، فأضافه إليهم من حيث أنهم حاملوه إلى أولئك القوم المعذبين. ونكر قوماً وصفتهم تقليلاً لهم واستهانة بهم، وهم قوم لوط أهل مدينة سدوم والمعنى: أرسلنا بالهلاك. وإلا آل لوط: يحتمل أن يكون استثناء من الضمير المستكن في مجرمين والتقدير: أجرموا كلهم إلا آل لوط، فيكون استثناء متصلاً، والمعنى: إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا. ويكون قوله: إنا لمنجوهم أجمعين، استئناف إخبار عن نجاتهم، وذلك لكونهم لم يجرموا، ويكون حكم الإرسال منسحباً على قوم مجرمين وعلى آل لوط لإهلاك هؤلاء، وإنجاء هؤلاء. والظاهر أنه استثناء منقطع، لأنّ آل لوط لم يندرج في قوله: قوم مجرمين، لا على عموم البدل، لأنّ وصف الإجرام منتف عن آل لوط، ولا على عموم الشمول لتنكير قوم مجرمين، ولانتفاء وصف الإجرام عن آل لوط. وإذا كان استثناء منقطعاً فهو مما يجب فيه النصب، لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن بوجه العامل على المستثنى فيه، لأنهم لم يرسلوا إليهم أصلاً، وإنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة. ويكون قوله: إنا لمنجوهم جرى مجرى خبر، لكن في اتصاله بآل لوط، لأن المعنى: لكن آل لوط منجون. وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدر بلكن إذا لم يكن بعده ما يصح أن يكون خبراً أنّ الخبر محذوف، وأنه في موضع رفع لجريان إلا وتقديرها بلكن.

قال الزمخشري: (فإن قلت): فقوله إلا امرأته مم استثنى، وهل هو استثناء من استثناء؟ (قلت): استثنى من الضمير المجرور في قوله: لمنجوهم، وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء، لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، وفي قول المقر لفلان: عليّ عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً. فأما في الآية فقد اختلف الحكمان، لأنّ إلا آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين، وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم، فأنى يكون استثناء من استثناء: انتهى. ولما استسلف الزمخشري أن إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم، لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء. ومن قال: إنه استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين: أحدهما: أنه لما كان الضمير في لمنجوهم عائد على آل لوط، وقد استثنى منه المرأة، صار كأنه مستثنى من آل لوط، لأنّ المضمر هو الظاهر في المعنى. والوجه الآخر: أن قوله: إلا آل لوط، لما حكم عليهم بغير الحكم علي قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم، فجاء قوله: إنا لمنجوهم أجمعين تأكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى إلا آل لوط، فلم يرسل إليهم بالعذاب، ونجاتهم مترتبة على عدم الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير قولك: قام القوم إلا زيداً، فإنه لم يقم وإلا زيداً لم يقم. فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه، فإلا امرأته على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط، لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء به للتأكيد.

وقرأ الأخوان: لمنجوهم بالتخفيف، وباقي السبعة بالتشديد. وقرأ أبو بكر: قدرنا بالتخفيف، وباقي السبعة بالتشديد، وكسرت إنها إجراء لفعل التقدير مجرى العلم، إما لكونه بمعناه، وإما لترتبه عليه. وأسندوا التقدير إليهم، ولم يقولوا: قدر الله، لأنهم هم المأمورون بإهلاكهم كما يقول من يلوذ بالملك ومن هو متصرف بأوامره: أمرنا بكذا، والآمر هو الملك. وقال الزمخشري: لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم انتهى. فأدرج مذهب الاعتزال في تفضيل الملائكة في غضون كلامه، ووصف قوم بمنكرون لأنه نكرتهم نفسه ونفرت منهم، وخاف أن يطرقوه بشرٍ. وبل إضراب عن قول محذوف أي: ما جئناك بشيء تخافه، بل جئناك بالعذاب لقومك، إذ كانوا يمترون فيه أي: يشكون في وقوعه، أو يجادلونك فيه تكذيباً لك بما وعدتهم عن الله. ويحتمل أن يكون نكرهم لكونهم ليسوا بمعروفين في هذا القطر، فخاف الهجوم منهم عليه، أو أن يتعرض إليهم أحد من قومه إذ كانوا في صورة شباب حسان مرد. وأتيناك بالحق أي: باليقين من عذابهم، وإنا لصادقون في الإخبار لحلوله بهم. وتقدم الخلاف في القراءة في فأسر. وروى صاحب الإقليد فسر من السير، وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني. وحكى القاضي منذر بن سعيد أنّ فرقة قرأت بقطع بفتح الطاء، وتقدم الكلام في القطع وفي الالتفات في سورة هود. وخطب الزمخشري هنا فقال: (فإن قلت): ما معنى أمره باتباع أدبارهم، ونهيهم عن الالتفات؟ (قلت): قد بعث الله الهلاك على قومه ونجاه وأهله، إجابة لدعوته عليهم، وخرج مهاجراً فلم يكن بد من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله، لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أهوالهم، فلا يفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحالة المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه، وليكون مسيره مسير الهارب الذي تقدم سريه وتفوت به.

وحيث تؤمرون قال ابن عباس: الشام. وقيل: موضع نجاة غير معروف. وقيل: مصر. وقيل: إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين. وحيث على بابها من أنها ظرف مكان، وادعاء أنها قد تكون هنا ظرف زمان من حيث أنه ليس في الآية أمر إلا قوله: فأسر بأهلك بقطع من الليل، ثم قيل له: حيث تؤمر ضعيف. ولفظ تؤمر يدل على خلاف ذلك، إذ كان يكون التركيب من حيث أمرتم، وحيث من الظروف المكانية المبهمة، ولذلك يتعدّى إليها الفعل وهو: امضوا بنفسه، تقول: قعدت حيث قعد زيد، وجاء في الشعر دخول في عليها. قال الشاعر:

فأصبح في حيث التقينا شريدهم طليق ومكتوف اليدين ومرعف

ولما ضمّن قضينا معنى أوحينا، تعدت تعديها بإلى أي: وأوحينا إلى لوط مقضياً مبتوتاً، والإشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من إهلاك قومه. وأنّ دابر تفخيم للأمر وتعظيم له، وهو في موضع نصب على البدل من ذلك قاله الأخفش، أو على إسقاط الباء أي بأنّ دابراً قاله الفراء، وجوزه الحوفي. وأنّ دابر هؤلاء مقطوع كناية عن الاستئصال. وتقدم تفسير مثله في قوله: { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } [الأنعام: 45] ومصبحين داخلين في الصباح، وهو حال من الضمير المستكن في مقطوع على المعنى، ولذلك جمعه وقدره الفراء وأبو عبيد: إذا كانوا مصبحين، كما تقول: أنت راكباً أحسن منك ماشياً، فإن كان تفسير معنى فصحيح، وإن أراد الإعراب فلا ضرورة تدعو إلى هذا التقدير. وقرأ الأعمش وزيد بن علي: إن دابر بكسر الهمزة لما ضمن قضينا معنى أوحينا، فكان المعنى: أعلمنا، علق الفعل فكسر إنْ أو لما كان القضاء بمعنى الإيحاء معناه القول كسران، ويؤيده قراءة عبد الله. وقلنا: إنّ دابر وهي قراءة تفسير لا قرآن، لمخالفتها السواد. والمدينة: سدوم، وهي التي ضرب بقاضيها المثل في الجور.